وكذا لا يَدري ماذا أراد من لفظ الصدقة بعد العشر؟ هل هو تفنُّنٌ في العبارة فقط، أو المراد منه الصدقة المتفرقة؟ والذي يظهر أن الواجبَ في المسألة المذكورة، وإن كان هو العُشر، لكنه أراد إدراجَ الصدقةِ المتفرِّقةِ في الثمار أيضًا، فلفها في لفظ الصدقة.
قوله:(ولم يخصّ) ... إلخ، هذا اللفظُ قد يُستعمل فيما يكون مختارًا ومطلوبًا، وقد يُستعمل فيما يكون متروكًا، ولا يصحُّ هذان المعنيان ههنا. وقد استعملَهُ المصنفُ فيما مر. وفيه: لم يخصَّ المذهب ... إلخ، وكذا في موضعٍ من الصيام، والخُمس والوقف، فأردت أن تبقى شاكلتُه في جميع المواضع سواء. فأخذته بمعنى «لم يفرق»، فإنَّه يمشي في سائر المواضع.
١٤٨٦ - قوله:(نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها) ... إلخ، واعلم أن البيعَ على رؤوس الأشجار إما يكون بشرط القطع، وهو جائزٌ بلا خلاف، بَدَا صلاحُها، أو لم يَبْد، وعلى الثاني وإن لم يَصْلُح لأكله، لكنه يكون عَلَفًا لدوابه. أو يكون بشرط التَّرك، وذا لا يجوز عندنا مطلقًا. وأما الشافعي فجوَّزه بعد بُدُو الصلاح لا قَبْله (١)، فَعمِلَ بمنطوقِ الحديث، ومفهومُه يكونُ بشرط الإِطلاق، فهو جائزٌ عندنا مطلقًا. لكن يجبُ القطعُ على المشتري إذا طالَبَه البائع. ولعلك علمتَ منه أنَّ الحنفية لم يعتبروا قيدَ - قبل البدو وبعده - مع كونه في أكثر الأحاديث. فإن قلتَ: إنَّ الشافعية أيضًا لم يعتبروه فيما باعَه بشرط القطع، فلزمَ عليهم ما يلزمُ علينا. قلتُ: كلا، لأن هذه الصورةَ خارجةٌ عن قضية الحديثِ، لكونها مُستثناةً عقلا. والاستثناءُ العقلي لا يورثُ الظنية في الباقي. ألا ترى أنه إذا باعَ بشرطِ القطع لم يبق فيه محلٌ للنزاع، أما إذا باعه بشرط الإِطلاق فهذا راجع إلى الأول. فإنه وإن سكت عن ذكر القطع، لكنه إذا أمَرَه يجبُ عليه القطعُ في الحال، فصار في حكمه. وفي «الهداية» أنه جائزٌ بعد البدو، وعند مشايخ بلخ، لا قبله، وعليه يُحمل الحديث.
بقي البيعُ بشرطِ التَّرك، ففيه ربا، مع أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قد نهى عن بيعٍ وشرط. والحاصلُ أنَّ البيعَ بشرط القطع مستثنىً عقلا. وبشرط التركِ ممنوع، للنهي عنه، فلم يبق إلا بالإِطلاق. واعتُبر فيه تفصيلُ البُدُو وعدمه عند مشايخنا ببلخ أيضًا، فهو محملُ الحديث. لأن البيعَ بالشرطين الأولين نادرٌ، فلا يُحملُ الحديث إلا على ما يكثُر وقوعُه، وهو بشرط الإِطلاق. وقد تكلم فيه ابن الهُمَام في «الفتح» فراجعه، فإنَّه جيّد جدًا. وسنعود إلى تقريره في موضع آخر أيضًا إن شاء الله تعالى.
٦٠ - باب هَلْ يَشْتَرِى صَدَقَتَهُ
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِىَ صَدَقَتَهُ غَيْرُهُ لأَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا نَهَى الْمُتَصَدِّقَ خَاصَّةً عَنِ الشِّرَاءِ وَلَمْ يَنْهَ غَيْرَهُ.
(١) قال ابن بَطَّال: غرضُ البخاري الرد على الشافعي، حيث قال: يُمنع البيعُ بعد الصلاح، حتى يؤدي الزكاة منها. فخالف إباحة النبي - صلى الله عليه وسلم -. اهـ. "عمدة القاري".