لمكان الاختلاف، وتجاذُب الأدلة، لأنه ليس في المرفوع كثيرُ شيءٍ يَدُلُّ على الفرق بين الأُولَيَيْن والأُخْرَيَيْن.
فإِن قلتَ به، لَزِمَ على ترك ما رُوِي عن علي رضي الله عنه في العَيْنِيِّ، وابن مسعود رضي الله عنه في «المصنَّف» لابن أبي شَيْبَة. وإن اتَّبَعْتَ أثرهما، يَلْزَمُ على خلاف تبادُر الحديث، فلذا أتوقَّف فيه. وإنما لم نَقُلُ بوجوب السورة في الأُخْرَيَيْن لِمَا عن قَتَادة في البخاري مرفوعًا:«أنه كان يقرأ في الظهر في الأُولَيَيْنِ بأمِّ الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأُخْرَيَيْن بأَمِّ الكتاب ... » إلخ، فقام الدليل على التخصيص.
قلتُ: ومع ذلك ثَبَتَ القراءةُ بالسورة أيضًا، فلا مناص إلا بالقول بالجواز، وهو قول فخر الإِسلام منا، وهو الأصوب عندي. ولعلَّ الأكثر من فِعْل النبيِّ صلى الله عليه وسلّم تركها، وهو السنة. وقد ذكرت بعض الكلام فيه في رسالتي «فصل الخطاب»، من شاء فليرجع إليها.
١٢٣ - باب الدُّعَاءِ فِى الرُّكُوعِ
٧٩٤ - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِى الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِى رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى». أطرافه ٨١٧، ٤٢٩٣، ٤٩٦٧، ٤٩٦٨ - تحفة ١٧٦٣٥
٧٩٥ - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَالَ «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ». قَالَ «اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ». وَكَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ يُكَبِّرُ، وَإِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَتَيْنِ قَالَ «اللَّهُ أَكْبَرُ». أطرافه ٧٨٥، ٧٨٩، ٨٠٣ - تحفة ١٣٠٢٧
ولعلَّه نظر إلى ما أخرجه مسلم:«أمَّا الركوع، فعظِّمُوا فيه الرَّبَّ. وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجدٌ، فادعوا فيه، فَقَمِنٌ أن يُسْتَجَابَ لكم». بالمعنى. وهذا يَدُلُّ على أن الدعاء ينبغي في السجود، أمَّا الركوع، ففيه تعظيم الرب جلَّ مجده. قلتُ: وتعظيم الرب لا يُنَافي الدعاء، فله أن يُعَظِّم ربه ويدعو بدعاءٍ مُخْتَصَرٍ أيضًا. فإن كان البخاري أراد به إسقاط ما عند مسلم، فليس بصحيحٍ، وإن كان أراد دفع الإيهام فقط، فهو ناهضٌ. ثم العمل عندي ينبغي أن يكون على حديث مسلم لأن الحديث جعل التعظيمَ في الركوع، والدعاءَ في السجود، فدلَّ التقابُل على أن المراد من التعظيم غير الدعاء، وإن كان الدعاء أيضًا جائزًا. والله تعالى أعلم.
بقي شيءٌ، وهو أن التعظيمَ أزيدُ في السجود من الرجوع، فينبغي أن يكونَ أمر التعظيم في السجود، مع أن الحديث جعله في الركوع. فكان للشارحين أن يَكشِفُوا عن معنى التعظيم لِيَظْهَرَ وجهُ اختصاصه بالركوع، وقد كَشَفُتهُ بحمد الله في «رسالتي»، فليراجع.