(من أجر أو غنيمة) قيل: إن «أو» لا يناسب ههنا. فإنها للترديد بين الأمرين، ولا ترديد ههنا، فإن المجاهد لا يخلو عن الأجر بحال. قال القرطبي: إن الكلام في الأصل كان هكذا من أجر فقط، أو أجر وغنيمة، وكان فيه تكرار، فحذفَ الأجرُ من المعطوف، فصار من أجر أو غنيمة، والاختصار في مثل هذه الواضع شائع. لأن حصولَ الأجر معلومٌ، ومفروغ عنه، فصار ذكره حشوًا، فحذفه اعتمادًا على فَهْم السامع. ونظيره ما قرره الطحاوي رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلّم «إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف عن قومك»، فإن التقابل في الظاهر غير مستقيم، وسيجيء الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.
أقول: والذي ظهر لي أنه يكفي لاستعمال «أو» العاطفة تغاير الحقيقتين فقط، وإن اجتمعا في الخارج، فلا يُشترط فيها المنافاة بحسبِ الخارج. وعلى هذا فاستعمال «أو» بين التابع والمتبوع لإفادة أن هذا أمرٌ وهذا أمرٌ آخر، كما في الحديث:«من أجر أو غنيمة»، فإن الغنيمة تابعة للأجر. ولما كان الأجرُ مغايرًا للغنيمةِ صح استعمال «أو»، وهكذا قلت في قوله تعالى:{أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}[الأنعام: ١٥٨] استدل به الزمخشري على أن الإيمان بدون الأعمال غير منج، وقال: تقديرُ الآية هكذا: لا تنفعُ نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو آمنت ولم تكسب في إيمانها خيرًا لتصح المعادلة. وهذا صريحٌ في أن الإيمان بدون كسب الخير غيرُ منج، وهو مذهب المعتزلة. وأجاب عنه ابن الحاجب في «أماليه» وأبو البقاء في «كلياته»، والشيخ ناصر الدين في «حاشية الكشاف»، وكذا الطيبي في «حاشية الكشاف»، وابن هشام في «المُغنى»، وكلامُ الطيبي أجودُ من الكل.
والذي عندي هو أن «أو» ليست لبيان التنافي بين المعادلين، بل جيء بها لإفادة أن الإيمان شيءٌ آخر والكسبَ شيءٌ آخر. وحاصل المعنى: نفي الكسبِ والإيمانِ جميعًا، أي لا تنفع إيمانُ نفس لم تكن آمنت ولم تكسب في إيمانها خيرًا. فانتفاءُ النجاة ليست لانتفاء الكسب مع وجود الإيمان، بل لانتفاءِ الإيمان وكسب الأعمال جميعًا، ولا نزاع فيه. فإن سمحت به قريحتُك بقَبوله فاقبله، وإلا فشأنك، وسنقررها بأبسط منه فيما سيأتي، فانتظره.
٢٨ - باب تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنَ الإِيمَانِ