الخطر. لكن أين كان يغنيه التدبير عن التقدير، فأتاه من حيث لم يَحْتَسِبْ. فلمَّا رأى انهزامَ الكفار، وأمرَهم مُدْبِرًا، رَكِبَ على بعيره، وأَصْحَبَ ابنه، وجعل يَهْرُب. فلمَّا رآه بلالُ، نادى الأنصار: إن هذا أُمَيَّةَ، إن نجا اليوم، فلا حياةَ لي، أي حياة طيِّبة، فلا أزال أتململ لتخلُّصه اليومَ من أيدي المسلمين.
وكان أُمَيَّةُ قد آذى بلالًا شديدًا، فلمَّا سَمِعَ الأنصارُ تَعَاقَبُوه، فرمى أُمَيَّةُ ابنه لِيُشْغَلُوا في قتله حتَّى يَفِرَّ منهم، فلم يَلْبَثْ الصحابةُ حتَّى قتلوه، ثم تَعَاقَبُوهُ حتَّى أحاطوا بأُمَيَّةَ. فلمَّا رأى أنه قد أُحِيطَ به، رمى نفسَه من البعير. وكان عبد الرحمن بن عَوْف صديقه، فأراد أن يُنْقِذَهُ، فتجلَّله لئلا يَقْتُلُوه، فَأَبُوْا إلَاّ أن يَقْتُلُوه، فَطَعَنُوه من تحت عبد الرحمن (١) وقتلوه. فرحل إلى دار البوار، وصدق اللَّهُ تعالى رسولَه سيدَ الأبرار.
فائدةٌ: ليس معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ} ... إلخ [القمر: ١٧] أن كنهُهُ يَحْصُلُ لكلِّ من جلَّ وقلَّ، بل معنى يسَّره، أنه يَغْتَرِفُ منه كلُّ غليلٍ، ويَشْتَفِي منه كلُّ عليلٍ، فيهتدي منه كلُّ أحدٍ إلى ما يَرْضَى به ربُّهُ. وإلى ما يَسْخَطُ عنه، ولا يَحْتَاجُ في ذلك إلى كبير تنقيرٍ وتفكيرٍ. أمَّا معانيه الغامضةُ، ومزاياه الرائقةُ، ومراميه الناعمةُ، فقد انْقَصَمَتْ ظهورُ الفحول عن إدراكها، وعَجَزَتِ الأفكار عن التطواف حول حَرِيمها.
٣٩٥١ - حَدَّثَنِى يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - يَقُولُ لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَاّ فِى غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ
(١) روى الحاكمُ في "المستدرك" أن رِفَاعة بن رافع طَعَنهُ بالسيف. وُيقَالُ: قتله بلال. وفي قاتله أقوالٌ أُخر، ذكرها الحافظُ. وأمَّا ابنُه عليُّ بن أُمَيَّة، فقتله عمَّارُ.