المرء ونفسه مع كونها أفضل؟ قلتُ: وهذا من باب الخصائص، فللأذان (١) خواصٌّ، كما إن للصلاة خواصٌّ أخرى تَلِيقُ بشأنها. ولعلَّ الوجهَ أن الأذانَ يُبْنَى على الإِعلان والصَّدْع بالشهادتين، فلا يتحمَّله الشيطان، أمَّا الصلاة فمناجاةٌ مع ربه، فحقيقةُ الصلاة وإن جَلَت إلا أنها ليست بحيث لا يمكن للشيطان تحمُّلها، بخلاف حقيقة الأذان، فإنها ممَّا لا يستطيع أن يتحمَّلها الشيطان. فهذا الفرق يُبْنَى على تَغَايُرِ الحقيقتين لا على الفضل. على أنه وَرَدَ في الأحاديث:«إنَّ المؤذِّن يَشْهَدُ له كل رَطِبٍ وَيَابسٍ يوم القيامة»، وهذا اللعين لا يحب أن يَشْهَد لأحدٍ من المؤمنين.
ونَقَل الحافظُ ابن حَجَر رحمه الله تعالى فيه حكايةً في مناقب الإمام الأعظم رحمه الله تعالى، فقال: ومن ثَمَّ اسْتَنْبَطَ أبو حنيفة رحمه الله تعالى للذي شَكَا إليه أنه دَفَنَ مالا، ثم لم يهتدِ لمكانه: أن يُصَلِّي ويَحْرِصَ أن لا يحدِّث نفسه بشيء من أمر الدنيا ففعل، فَذَكَر مكان المال في الحال. انتهى.
قلت: ما لك يا ابن حَجَر، فإنك تأتي بمناقب الإمام في مثل هذه الأمور، فإذا حَمِيَ وطيسُ المسائل تُعْرِضُ عنه كشحًا.
قوله:(ثُوِّب) ويمكن عندي أن يكونَ التثويبُ مأخوذًا من الثَّوْبِ على عادتهم في الجاهلية، فإنهم كانوا يحرِّكُون ثيابهم على طَلَلٍ عند مهيعة، ثم اسْتُعْمِل في مطلق الإعلام. وفي عُرْف الفقهاء هو الإعلام بين الأذان والإقامة، وهذا مختلِف في البلاد والزمان، وأجازه أبو يوسف رحمه الله تعالى للقضاة، ومن ازدحمت عليه المسائل.
قوله:(سَمْحًا): يعني بدون لَحْنٍ وترجيعٍ في الصوت (سادى أورردان). وغَرَضُ المصنِّف رحمه الله تعالى أنه يرفعُ صَوْتَه، ويَجْتَنِبُ عن اللحن.
(١) قلتُ: وَسَمِعْتُ من شيخي: أنه لا يبلغُ أهل السموات من أصوات أهل الأرض غير الأذان والقرآن، فهاتان فقط تَخْلُصَان إلى السموات، ولعلَّه في "الجامع الصغير" للسيوطي رحمه الله تعالى.