والجزاء، مع أن في الحديث أذان من الله ورسوله إلى من هاجر إليهما في الدنيا أنه يجدُ هجرته تلك بعينها في الآخرة. ومن هاجر إلى دنيا أو امرأة لا يجدها إلا تلك {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، (الكهف: ٤٩) وقال تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا}(الكهف: ٤٩) فهذه حقيقة غَفَلَ عنها الناس، وفهموا أن في الدنيا أعمالًا وفي الآخرة ثمراتها. ثم أشكل عليهم مسألة التقدير، وقالوا: إن الأعمال لما كان من إقداره وتقديره، فترتب الجزاء عليها غير ظاهر. وفيه نظم لي طويل:
*وليس جَزَاءُ ذاك عينَ فِعَالِنَا ... وقد وجدوا ما يعملون وعوَّلوا
*وفي الحَال نارٌ ما تورط ههنا ... ولكنَّ سِترًا حالَ سوف يزولُ
وسنقرره إن شاء الله تعالى في مقامه.
هل يُشترط سُنُوح الجُزئيات لإحراز الثواب؟
فقوله:«إنما الأعمال بالنيات» يُشعر بكفاية النية الإجمالية، وقوله:«إنما لكل امرىء ما نوى» يُشعر بتفصيلها. فإنه إذا وجد ما نواه ولم يجد ما لم ينوِ، فقد لزم منه التفضيل. والذي يظهر أن النية الإجمالية كافية لإحراز الثواب قطعًا ولا يجب سنوحها. ألا ترى أن من ربط فرسًا في سبيل الله يحصل له الأجر على روثه، وبوله، واستنانه، وريِّه، وعلفه، وشربه، مع أنه لم يَسْنَح له هذه الجزئيات عند ربطه في سبيل الله. نعم، بسط النية دخيل في انبساط الآجر، فإن الأعمال وثمارها تابعة للنيات، فقبضها بقبضها وبسطها ببسطها.
والحاصل: أن الحديث فَرَّق بين النية الفاسدة والصحيحة نصًا. أما كونها مجملة أو مفصلة فلم يعط فيه تفصيلًا من عنده. وقوله:«ما نوى» أيضًا مجملٌ ومعناه: ما نوى نية إجمالية أو تفصيلية.
بقي أن القدر الضروري هو النية نفسها، أو يشترط شعورها أيضًا. والأوضح أن النية في مرتبة العلم كافية، وهي التي تسبق الأفعال الاختيارية، ولا يشترط في مرتبة علم العلم. وحينئذٍ فصورة الذهول ليست بمذكورة في الحديث.
وحاصله: أن النية العرفية تكفي لإحراز الثواب، ولا يشترط شعورها وتقررها واستحضارها. وهو العرف في هذه المواضع، ولا ينساق الذهن إلى المرتبة المنطقية، وهي علم العلم، فلا يُحْمَلُ عليها الحديث أصلًا. بخلاف الخصوم، فإن كلامهم أقرب إلى مرتبة علم العلم.
تنبيه: ومما ينبغي أن يُحْفَظَ ولا يُذْهَلَ عنه ما اختاره الغزالي فيما يتعلق بالثواب: أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أُجِرَ بقدره، وإن تساويا فتردَّد القصدُ بين الشيئين فلا أجر. وأما إذا نوى العبادة وخالطها شيء بما يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف: أن الاعتبار بالابتداء، فإن اعتراها فساد بعد الشروع - والعياذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر - فنرجو من رحمة الله أن يتغمده بغفرانه ولا يُحْبِطَ