وحاصله: على ما أرى: أن الجُمعاتِ وإن أقيمت في الأمصار فقط في عهد صاحب النبوة إلا أن الأنظار دارت فيها، أن إقامتها في الأمصار كانت على طريق الاتفاق، أي لم يتفق لهم إقامتُها في القرى، ومَنْ أراد منهم الجمعةَ أتى المِصْر فصلَّاها مع أهل المصر، أو على معنى شرطيتها، فذهب اجتهاد الإِمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنها كانت على طريق الشرطية دون الاتفاق، ومَنْ رآها واسعةً في المِصْر والقُرَى حَمَلها على الاتفاق فقط. ولا بُعْد فيه، فكم من أشياءَ يستمرُّ بها العملُ، ثم يسري الاجتهاد فيها، كالتثليث في الوضوء، كيف استمر به العملُ خَمْسَ مراتٍ في كل يوم، ومع ذلك سرى فيه الاجتهاد أنه لمعنىً في هذا العدد بعينه. أو للإسباغ فقط: فذهب إِمام من الأئمة أنه للإسباغ فقط، فهذا مما يمكن فليقس عليه حالُ الجمعة أيضًا، فإِنها إذا أقيمت في الأمصار عامة ولم يشتهر إقامتها في القرى في عهد النبوةِ، إِمَّا لأداء الناس إياها خَلْف الأئمة في الأمصار كما مرَّ من قبل، أو لمعاني كانت هناك سرى فيها الاجتهاد فيما بعد، فمنهم مَنْ لم يجوِّزها في القرى ورأى المِصْر شَرْطًا، ومنهم مَنْ رآها واسعًا وحمل إقامتها في الأمصار على الاتفاق فقط، ثم توجهت الأذهان إلى إثباتها في القرى في عهد النبوة أيضًا، وهذا مما فُطر عليه الإنسان، أنه إذا رسخ شيءٌ في بواطنه أولًا طَلَب له دليلًا من عهد النبوة، وليمعن النظر فيه هل يكفي ويشفي ولعل اللهَ يُحْدِث بعد ذلك أمرًا. اهـ.