«أَكُنْتُم تَكْرَهُون الحِجَامةَ؟ قال: لا، إلا من أجل الضَّعْف»، وهذا يُمْكِنُ أن يكونَ إشارةً إلى التأويل المشهور، أو بيانًا للواقع.
واعلم أن هناك حديثًا في «المسند» لأبي يَعْلَى، وهو في «المسند» لأبي حنيفة أيضًا: «أن الوضوءَ ممَّا خَرَجَ، والفِطْرَ ممَّا دَخَلَ»، ومقتضاه أن لا تكون الحِجَامةُ مُفَطِّرَةً، لأنها لم يَدْخُل منهاشيءٌ، فَيُحْتجُّ بها على خلاف ما اختاره أحمد.
قلتُ: ويمكن عندي أن يكونَ ممَّا خرج أيضًا شيءٌ من الفساد، كما في الاستقاء، فإنه يُوجِبُ الفسادَ مع عدم دخول شيءٍ فيه، فكذلك يمكن أن يكون خروجُ الدم أيضًا مُفْسِدًا، ولو في الجملة. وكما في الفِقْهِ أن من بَاشَرَ امرأته فأنزل، فَسَدَ صومُه، مع أنه ليس فيه دخول شيءٍ، ولكن لا يُدْرَى أن الحكمَ بالفساد فيه لأجل المُبَاشرة، أو خروج المنيِّ. فإن كان الثاني، فهو نظيرٌ ثالثٌ للفساد ممَّا خَرَجَ. على أن للملائكة مُنَافرةً تامةً من الدماء، ولذا قالوا:{وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}[البقرة: ٣٠] أَلا تَرَى أن الصومَ لا يَجُوز للطامث، مع عدم دخول شيءٍ فيه؟ فإذا عَلِمْنَا الفسادَ كلاًّ، أو بعضًا مما خَرَجَ أيضًا، وَسِعَ لنا أن نقولَ به، فيما نحن فيه، لا سيَّما إذا كانت الملائكةُ تتأذَّى منه. ورأينا أن الشريعةَ قد تَعْتَبِرُ بالأشياء التي تُؤْذِي الملاكةَ أيضًا.
ولولا الأحاديث دَلَّت على عدم الفساد من جانبٍ آخر، لادَّعَيْتُ أن الحِجَامةَ مُفْسِدَةٌ في أحكام الدنيا أيضًا. إلا أن الدلائلَ لمَّا قامت على خلافه، اكتفيتُ بالفساد الأخرويِّ، وجعلتها كالغِيبة مُفْسِدةً في النظر المعنويِّ، مُحْبِطَةً للثواب فقط، وإن لم تكن مُفْسِدةً في الحكم.
١٩٣٩ - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ احْتَجَمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ صَائِمٌ. أطرافه ١٨٣٥، ١٩٣٨، ٢١٠٣، ٢٢٧٨، ٢٢٧٩، ٥٦٩١، ٥٦٩٤، ٥٦٩٥، ٥٦٩٩، ٥٧٠٠، ٥٧٠١ - تحفة ٥٩٨٩
١٩٤٠ - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِى إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِىَّ يَسْأَلُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ قَالَ لَا. إِلَاّ مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ. وَزَادَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -. تحفة ٤٤٨
١٩٣٩ - أمَّا قوله:(احتجم النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وهو صائمٌ)، فعلَّله الإِمامُ أحمد، وبَسَطَه ابن عبد الهادي. وملخَّصُهُ: أن الاحتجامَ المذكورَ كان في حال الإِحرام، ولم يَثْبُتْ إحرامه في رمضانَ، وإذن لا يكون صومه هذا إلا نفلا. مع أنه لا دليلَ فيه على عدم قضائه أيضًا، على أن قضاءَ الصومِ النفلِ مُجْتَهَدٌ فيه. وبعد اللَّتَيَّا والتي لمَّا صَحَّ الحديثُ فيه، وذهب إمامٌ ذو شأنٍ إلى ظاهره، بلا تأويلٍ فيه، التزمتُ أن في الحِجَامة إفطارًا في النظر المعنويِّ، وإن لم يكن في النظر الفقهيِّ. كيف لا وأنه تلطَّخ بالدماء، وتجنَّب من سِمَات الملائكة، وتزيَّ بغير زِيِّهم في شهر التقوى. وقد قرَّرْنَاه مِرَارًا.