الحالاتِ في السفر على أنحاء، قد يكونُ النَّفْع في السير عقيبَ الزوال: بأن يَرْتَحِل حتى إذَا كان آخِرُ وقت الظهر يَنْزل ويَجْمع بين العصرين، وقد يكون النَّفعُ في المُكْث حتى يمكنَه الْجَمْعُ بينهما فيجمع بينهما، ثُمَّ يَرْكَبُ مَطِيَّته ويتتابعُ في السير حتى ينزل للجَمْع بين العشاءين، ولا يحتاجُ إلى نزولهِ للعَصْر القَطْع لسَفَره. فالتمادي في الصورة الأُولى في الأول، وفي هذه في الآخِر.
ويَشْهَد له ما في «الفتح» عن البيهقي: «أنه كان إذا نَزَل مَنْزلا في السفر فأعجبه أقام فيه، حتى يَجْمَع بين الظهر والعَصْر ثم يَرْتَحِل، فإذا لم يتهيأ له المَنْزل مَدَّ في السَّير فسار، حتى ينزلَ فيجمع بين الظُّهر والعَصْرِ» اهـ. فدلَّ على أنه قد كان يقيمُ بالمنزل إذا أعجبه، ويَبْقى هناك حتى يَجْمَع بين العصرين ثم يرتحل، ويُتابع في السَّفر حتى يمكن له الجَمْعُ بين العشاءين، وإنْ لم يتهيأ له لم يكن يَنْزِل له.
وفي «الجامع» للترمذي: «أنه قد كان يُؤخِّر الظُّهر في السَّفر حتى يُساوي الفيءُ التُّلول». فدل على شِدَّة تأخيره وطول إقامته، ويحصل في مِثْله الجَمْعُ بدون تكلُّف. ولعلك علمتَ منه أن ما رواه الترمذي من حديث معاذ رضي الله عنه أيضًا صحيحٌ، ولا حاجة إلى إعلاله كما فَعَله الجمهور. والاختلاف يُبنى على اختلاف صُوَر السفر، والجَمْعُ فيه جَمْعُ فِعلا في كل حالٍ، وما يتبادر فيه مِنْ جواز جَمْع التقديم فَفَرْطٌ من الوَهْم.
١٧ - باب صَلَاةِ الْقَاعِدِ
واعلم أن المصنِّفَ رحمه الله تعالى لم يترجم للفَرْق في جوازِ القعود وعدمه بين التطوّعِ والفريضة، ولا أَوْمأ إليه في مَوْضع، مع اتفاق أهل الإجماع على عَدَم جوازه في المكتوبات إن قَدِر على القيام، لأنه عَلِم أن لا تفصيلَ فيه في الأحاديثِ القوليةِ، ففوَّضه إلى الخارج، فمتى ما أجازت له الشريعةُ بالقعودِ جاز له القعودُ، وأينما نَهَت عنه لم يَجُز له. ألا ترى إلى حديث عِمْرَان عند البخاريّ رحمه الله تعالى - كما سيأتي بعد عدة أحاديث: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن صلاةِ الرَّجُل قاعدًا فقال: «إنْ صلَّى قائمًا فهو أَفْضَلُ، ومَنْ صلَّى قاعِدًا فله نِصْفُ أَجْر القائم، ومَنْ صَلَّى نائمًا فله نِصْفُ أَجْرِ القاعد «اهـ. فلم يتعرَّضِ فيه إلى تفصيلٍ (١) بين القيام والقعود، متى يجوزُ ومتى لا يجوز، لأن الحديث سِيق لبيانِ التَّنْصِبف.
وأما مسائلُ القيام والقعود فكما قد عَلَّمته الشريعةُ مِنْ قَبْل، فيكون بَني ما في الحديث وبين تفاصيل القيام والقعود عمومٌ وخصوصٌ من وجه. ومِن ههنا تَبيَّن جوابُ ما قيل إنَّ حديثَ
(١) قلتُ: ونحوه ما قال العلامة السِّندي على النَّسائي: الوَجْه عندي أن يقال: ليس الحديثُ بمسوق لبيانِ صِحة الصلاة وفسادِهَا، وإنَّما هو لبيان إحْدَى الصلاتين الصحيحتين على الأُخْرى، وصِحَتهَا تُعْرَف من قواعد الصحة من خارج في أصل الحديث، أنه إذا صَحَّتِ الصلاةُ قاعدًا، فهي على نِصْفِ صلاة القائم، فرضًا كانت أو نفلًا، وكذا إذا صَحَّتِ الصلاةُ نائمًا. فهي على نِصْف الصلاةِ قاعِدًا في الآخِر ... إلى آخِر ما قال من "حاشية السِّندي" على النَّسائي. وقد بسط المقام فراجِعْه بتمامهِ، فإنه يشتمل على الفوائد.