واعلم أن العلم عند الماتريدية: صفةُ مُودَعة في القلب، كالقوة البَاصرة في العين، من شأنها الانجلاء بالشروط اللائقة بها، فالعلمُ واحدٌ مع تعدُّد المعلومات. نعم، تعدُّد الإضافات ضروري. بخلاف الفلاسفة فإنهم قالوا: إنه حصول الصُّورة، أو الصُّوَر الحاصلة، ولا مُسكَة لهم على ذلك. ومن ههنا عُلم أن العلمَ والمعلومَ متغايران بالذات، لا كما زعموا أنهما متّحدان بالذات. ويتعلق بالمعدوم، لاكالفلاسفة القائلين بتوسُّط الصور؛ فإنهم لما استحالوا العلم بالمعدوم، ذهبوا إلى إقامة الصُّوَر في البين، وقالوا: إن الصورة تَحصلُ أولًا، ثم يحصلُ العلمُ بالمعدوم بواسطتها.
قلت: وليس في هذا غير تطويل المسافة، فإنَّا نسأل كيف تُعلَّقُ تلك الصورة بذي الصورة؟ فإن كان بصورة أخرى يلزم التسلسل، وإن كان بالمعدوم فليكن تعلّقُ العلم أيضًا كذلك، على أنه يلزم عليهم أن يَحْصَلَ العلم قبل المعلوم، فإن المعلومَ عبارة عن الصورة من حيث هي هي، وهي مأخوذة عن درجة العلم التي هي عبارة عن الصورة من حيث الاكتناف. وتَقَدُّمُ المأخوذ منه على المأخوذِ أمرٌ بَدَهِيّ، فلزم أن يحصل العلم قبل المعلوم، وتقدم الصورة المطلقة التي هي عَلَمٌ على الصورة الملحوظةِ بقيد الاكتناف لا ينفع ههنا، فهذا كله جهل وسَفَه.
والحق أن العلم يتعلق بالمعدوم والموجود، ولا يحتاج إلى تخلُّل الصُّوَر. ثم إن العلم حُسْنَه وقُبْحَه بحسنِ المعلوم وقبحه. وقد أبدع المصنف رحمه الله تعالى في الترتيب، حيث وضع الوحيَ أولًا، ثم الإيمان ثم العلم، ثُمَّ الطهارة ثم الصلاة ... إلخ.
واعلم أن العلمَ إنما يُعدُّ كمالًا، لكونِهِ وسيلةً إلى العمل المُفْضِي إلى رضائه تعالى، فالعلم الذي ليس على هذه الطريقة، فهو وَبَالٌ على صاحبه، وإليه يشير آخرُ الآية:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} نبَّه فيه على ما به كمالُ أولي العلم والفوز بالدرجات. ثم إن العمل الصحيح يرضاه ربك، ولا علم به إلا من تِلقاء النبوة، فدعت الضرورة إلى الإقرار بالنُّبوة، ومَنْ أنكرها فهو صابئيٌّ مثل كفار يونان وعراق بعد نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، فإنهم كانوا يُنْكرونها. ومرَّ ابن تيمية رحمه الله تعالى على تحقيقهم فلم يُدْرِكه. وقد ذكر الشَّهْرَسْتَاني مناظرة الحنفاء