مواضع المشقة، والمجاهدة، كقيام الليل فيذهل فيه عن النية أيضًا من جهة أخرى، لأن ما فيه مِن حَمْل المشاق وإتعاب النفس، ومقاساة الأحزان، يعدُّه المرء طاعةً بنفسه، ولا يرى فيه جهة غير تلك الجهة على نقائض المصائب السماوية، فإنه لا يرى فيها جهةَ الطاعة. فوجه الشارع ههنا أيضًا إلى توفير النية ليزداد أجرًا، أو في موضع يعدّه الرجل خفيفًا غير موجب لأجر، كما في الإنفاق على الأهل والمجيء من البُعْد للصلاة، فإن الأولَ واجبٌ عليه طبعًا وعرفًا، والثاني وسيلة. فالمرادُ منه توفير النيةِ، واستحضارُهَا، وإشعارُ القلب بها في تلك المواضع، فهو مرتبة عِلمِ العلم، دون العلم، وقد مر معنا أنه لا حاجةَ لإحراز مطلق الأجر إلى نية زائدة على ما تكون في الأَفعال الاختيارية، بل تكفي منها ما يكون قُبيل الأفعال الاختيارية.
نعم، لا بد من انتفاء النية الفاسدة، وبعده لا تجب عليه نية أخرى لتحصيل الثواب، وهذا الشرح أخذته من حديث «مسند أحمد»: «من هَمّ بحسنة كتب له عشر حسنات إذا أشعر به قلبه وحرص ... الخ». فهذا هو الاحتساب عندي أي إشعار القلب، وهو أمر زائدٌ على نفس النية، فالنيةُ وإن كانت كافية لإحراز الأجر إلا أن في الاحتساب معنى ليس فيها (١).
٣٦ - قوله:(إيمان بي وتصديق) ... إلخ. وهذا تنوينٌ في المُسند إليه، فلا تخلو عن فائدة، وإنما الخلاف في تنوين المسند، كما مر فتفيد التبعيض، وتدل على أن إيمانًا دون إيمان (وتصديق برسوله) إن كان بأو العاطفة، فالغرض أنه لا فرق بين الإيمان والتصديق ههنا، إلا باعتبار المتعلق، وهو الله في الإيمان، والرسول في التصديق، بخلاف ما إذا كان بالواو العاطفة، قال الشيخ الأشعري: إن التصديق كلام نفسي، وهو قوي أيضًا. لأن الشريعة جعلت غايةَ القتال قول: لا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلّم «أمرتُ أن أقاتلَ الناسِ حتى يقولوا: لا إله إلا الله»، فجعل قولَ تلك الكلمة إيمانًا، ومبدأ القول هو الكلام النفسي، والمرادُ منه قول النفس، فإذا قال النفس بتلك الكلمة تبعه اللسان، وأقر بها. وقد مر تفصيله من قبل.
(١) قلت ويتوهم من بعض الألفاظ دخول قسم في قسم آخر، وإنما لم نهتم بتمييزه في التعبير لوضوح المراد، فعليك بالتأمل، في الأمثلة ليتبين لك تباين المراد.