قلتُ: وقد صرَّح مالك (١): أن المرادَ منه الزيادةُ في المقدار، دون البركة فقط. فراجع ظهار «الموطأ»، وفيه: أنَّ المُدَّ الواجبَ في سائر المواضع هو ما كان في عهده صلى الله عليه وسلّم أمَّا في الظهار فما حدث اليوم. فكأنَّه اعتبر في الظِّهَار الاسمَ، وفي سائر المواضع القَدْرَ، وقد عَلِمْتَ أن الاسمَ لا يختلف باختلاف القَدْرِ.
قوله:(وقَالَ لي مَالِكٌ: لَوْ جَاءَكُم أَمِيرٌ، فَضَرَبَ مُدًّا أصْغَرَ مِنْ مُدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بأيِّ شيءٍ كُنْتُم تُعْطُونَ؟) ... إلخ، أي لو كان المُدُّ نَقَصَ من مدِّه صلى الله عليه وسلّم لَمَا كنتم أعطيتموه في حقوق الله، فكذلك إذا زاد عليه.
وبالجملة: إنَّ المَدَارَ في أداء الحقوق ليس إلَّا على المُدِّ الذي كان بعهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم سواء زاد بعده، أو نَقَصَ. وكان النَّاسُ إذ ذاك يُعْطَون مُدَّهم على ما كان عندهم، فإن كان مُدُّهم زائدًا أعطوا من هذا الزائد، وإن كان ناقصًا فمن الناقص، على نحو ما ذَكَرَه ابنُ الهُمَام: أنَّ الدِّرْهَمَ المعتبرَ في باب الزكاة هو ما كان رائحًا عند أهل البلدة، بشرط أن لم يكن ناقصًا ممَّا كان بعهده صلى الله عليه وسلّم وجعلَ مالكُ المدارَ في المُدِّ على مُدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في الصورتين جميعًا. والله تعالى أعلم بالصواب.
٦ - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}[المائدة: ٨٩]
(١) قلتُ: وكنتُ أُسْرِحُ طرفي في ظهار "الموطأ"، فما كنتُ أجدُ ما نَسَبَ إليه الشيخُ علي ما في مذكرتي، حتَّى وجدتُ بعضَه في آخر أبواب الزكاة، في مكيلة زكاة الفطر. قال مالك: "والكفَّاراتُ كلُّها، وزكاةُ الفطر، وزكاةُ العَشُور، كلُّ ذلك بالمُدِّ الأصغر مُدِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا الظهار، فإنَّ الكفَّارةَ فيه بالمدِّ الأعظم، مدِّ هشامٍ" اهـ: ص ١٢٤ وهذا كما ترى صريحٌ في أن المُدَّ الذي حَدَثَ بزمانه لم يكن أعظمَ بركةٍ فقط، بل كان أعظمَ قدرًا أيضًا. وإنَّما أوَّله الحافظُ بما أوَّل لِيُثْبِتَ أنَّ الصاعَ بالمدينة لم يتبدَّل قطُّ، ولم يكن صاعُهم إلَّا صاعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأرادَ بالأعظمية البركةَ فقط، وقد عَلِمْتَ تكرُّمَه وشمائلَه، كما ذكره الشيخُ، فلله الحمدُ.