للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وعندي يمكن أن تكون هذه الترجمة مأخوذةً من مجموع قوله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور: ٤٠]، والحديث النبوي: «الظلم ظلمات يوم القيامة»، حيث جعلَ الظلمَ في الدنيا ظلمات يوم القيامة، والظلمات تفوق بعضها على بعض، فثبت ظلمٌ دون ظلم. فالمصنف رحمه الله لعله نظر إلى هذه وترجم بظلم دون ظلم، أما الاختلاط واللَّبس، فإنه وإن احتاج إلى اتحادِ المحل، لكنه يكفي له اتحاد الشخص أيضًا. وعلى هذا يصح اختلاط الإِيمان مع المعاصي، مع كونها على الجوارح، والإيمان في القلب. فإن محلَّهما هو ذلك الرجل بعينه، وهو واحد، وإيجادُ تغاير المحل في الشخص الواحد بأنه القلب للإيمان والجوارح، للمعاصي، نظر منطقي، وهو بمعزلٍ عن نظرِ أهل العُرف.

ثم اعلم أنه يُعلم من سياق البخاري: «أن قوله: {إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} نزل بعد قوله: {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَنَهُمْ بِظُلْمٍ} ... إلخ، مع أن الأمر على العكس. والجواب: أنه أراد بتلاوته دفعَ الاستبعاد، وتفريجَ همهم، وعبَّره الراوي بالنزول كما تلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ} ... إلخ (آل عمران: ١٤٤) في خطبة بعد وفاته صلى الله عليه وسلّم تسليًا لهم ودفعًا لاستبعادهم، فقال قائل منهم: كأنها نزلت الآن، وانكشف عنهم ما رابهم، فهذا توسّع في البيان لا غيرُ.

٢٥ - باب عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ

لما قدَّم تفاوت المراتب في الكفر عَقِّبَه، بكون النفاق أيضًا كذلك. ولا إشكال فيه على تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله، فإنه يمكن أن توجدَ في المؤمن خصائلُ النفاق، بل خصائل الكفر. نعم يشكلُ على الجمهور، فإن هذه الأشياء إذا كانت علامات على النفاق أوجب وجودها سلب اسم الإيمان عمن تحققت فيهم. فأجاب عنه بعضهم بأنها كانت علامات للمنافقين في عهده صلى الله عليه وسلّم خاصّة.

وأقول: العلامة غير العلة، فهذه علامات وأمارات للنفاق، وهي تتقدم على وجود الشيء، فيكون النفاقُ سابقًا عليها، وتلك علامات عليه. فمن تحققت فيه هذه، لا يحكم عليه بالنفاق، لأن تحققَ العلامة لا يستلزمُ تحقق المعلَّم عليه، بل يقال: فيه خَصلةٌ من النفاق. ولأن قيامَ المبدأ لا يوجبُ إطلاقَ المشتقِ عند الأدباء، ما لم يعتاد به حتى يصير له كالعَلَم كما مر.

وبعضهم قَسم النفاق: إلى عملي واعتقادي كما فعله البيضاوي في «شرح مصابيح السنة». قلتُ: دعه، فإن النفاق أمرٌ واحدٌ، وهو العمل بخلافِ الاعتقاد، أو الاعتقادُ بخلاف العمل. أما الأول فكالمنافقين (١) في زمنه صلى الله عليه وسلّم، فإنهم كانوا يعملون أعمال المسلمين، مع أن باطنَهم كان


(١) واعلم أن البيضاوي لم يصنف كتابه على طور المحدثين، بل أخذ كثيرًا من "الكشاف"، وصاحبُ "الكشاف" يأتي في كتابه "الفائق" بالموضوعات أيضًا فاعلمه، هكذا في تقرير الفاضل عبد العزيز الكاملفوري.

<<  <  ج: ص:  >  >>