قال الحافظ رحمه الله تعالى: إن حديث ابن بُحَيْنَة المُعَلَّق ههنا ظاهره وجوب التفريج المذكور، لكن أخرج أبو داود ما يَدُلُّ على أنه للاستحباب، وهو حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله تعالى عنه:«شكا أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم له مَشَقَّةَ السجود عليهم إذا انْفَرَجُوا، فقال: اسْتَعِينُوا بالرُّكَب». وترجم له بالرخصة في ذلك، أي: في تركِ التفريج. قال ابن عَجْلانِ - أحد رواتهِ: وذلك أن يَضَعَ مِرْفَقَيْهِ على رُكْبَتَيْه إذا طال السجود وأعْيَا. وقد أخرج الترمذيُّ الحديثَ المذكورَ، ولم يقع في روايته:«إذا انفرجوا»، فترجم له: ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود، فجعل محل الاستعانة بالرُّكَب لمن يَرْفَعُ من السجود طالبًا للقيام. واللفط مُحْتَمِلٌ لِمَا قَال، لكن الزيادة التي أخرجها أبو داود تُعَيِّنُ المراد. اهـ.
قلتُ: شرح أبي داود مرجوحٌ عندي، أمَّا شرح الترمذي فله وجهٌ. وحاصله على ما نقله الحافظ: أن المرادَ من الاستعانة بالرُّكَب: الاستعانةُ عند النهوض من السجود، دون الاستعانة بالمِرْفَقَيْن حال السجود، لكن لفظه عندنا هكذا: باب الاعتماد في السجود. وظاهرُه رَاجِعٌ إلى شرح أبي داود، لكن لمَّا نقل عنه الحافظ ما يَدُلُّ على الاعتماد حين القيام، نَاسَبَ أن يُؤَوَّل في النسخة التي بأيدينا أيضًا، بأن يُقَالَ: معنى الاعتماد في السجود: الاعتماد في القيام من السجود. ثم هذا التأويلُ لا يجري فيما أخرجه الترمذيُّ من متن الحديث عندنا، لأن فيه:«أن أصحابه اشتكوا مَشَقَّةَ السجود عليهم إذا تَفَرَّجُوا، فقال: استعينوا بالرُّكَب». وهذا يَدُلُّ على أن الشِّكَاية كانت في حال السجود، لا في حال القيام من السجود (١).
وأخرجه الطَّحَاوِيُّ في باب التطبيق في الركوع، وليس فيه لفظة:«إذا تفرَّجُوا». ولذا وَسِعَه أن يَحْمِلَهُ على الاستعانة بالرُّكَب في الركوع على خلاف التطبيق. فتحصَّل من المجموع ثلاثة شروح: الأول للترمذيِّ، وحاصلُه على لفظ الحافظ: اسْتَعِينُوا بالرُّكَب عند القيام من السجود لئلا يَشُقُّ عليكم التفريج. والثاني للطَّحَاوِيِّ: أي اسْتَعِينُوا بالرُّكبِ في الركوع بالقبض عليها - على خلاف التطبيق - مخافةَ أن تَسْقُطُوا. والثالث لأبي داود: أي اسْتَعِينُوا بالمرافق في حال السجود خَشْيَةَ أن تَتْبَعُوا ولا يحتمل لفظ أبي داود غير هذا الشرح، بخلاف لفظ الترمذيِّ،
(١) قلتُ: إن ترجمة الترمذي لا تُوجَدُ عندنا على ما نقله الحافظ رحمه الله تعالى. كذلك متن الحديث أيضًا ليس عندنا على اللفظ الذي نقله، لأنه قال: إن لفظ: "إذا انْفَرَجُوا" لم يقع في روايته مع أنه واقعٌ عندنا كما عَلِمْتَ والفرق بالانفعال والتفعُّل لا يُجْدِي، فالحديث على ما نقله يُطَابِقُ ترجمته عند الحافظ رحمه الله تعالى بدون تأويلٍ. وأمَّا إذا كان لفظُ الحديث كما هو عندنا، فلا يُطَابِقُ إلَّا الترجمة التي في نسختنا، إلَّا أن يُؤَوَّل في الحديث والترجمة كليهما، وحينئذٍ، يكون مآله إلى النسخة التي عند الحافظ رحمه الله تعالى.