واعلم أن الحَرْثَ والمُزَارَعَةَ مِلاك العالم، لا يتمُّ نظامُهُ إلا به، ومع ذلك تَرِدُ الأحاديث في كراهته، فيتحيَّر منه الناظر. وما ذَكَرْنَاه في الحِجَامَةِ لا يَنْفَعُ ههنا، فإن الحجَّامَ الواحدَ يكفي لجماعاتٍ، بخلاف الحَرْثِ. وأُجِيبَ أن الأهمَّ في عهده صلى الله عليه وسلّم كان الجهادَ، والاشتغالُ بالحَرْثِ يُوجِبُ الاشتغال عنه، فذمَّه (١) لهذا. ثم إن مخالب السلطنة تَنْشَبُ بالمزارع، أكثر ممَّا تَنْشَبُ بالتاجر. وكذا المُزَارعُ يُحْرَمُ من الخير كثيرًا، فلا يَجِدُ فرصةً لاستماع الوَعْظِ، وصُحْبَةِ الصُّلَحَاء.
والحاصلُ: أن الشيءَ إذا دار بين خيرٍ وشرَ، لا يُحْكَمُ عليه بالخيرية مُطْلَقًا، أو الكراهةِ
(١) يَقُولُ العبدُ الضعيفُ: إليه تُومىءُ ترجمةُ البخاريِّ: باب ما يُحْذَرُ من عَوَاقِب الاشتغال ... إلخ. فبوَّب أولًا بفضله، ثم حذَّر لِمَا فيه من العواقب السوأى، فقسَّم على الحالات، وحَمَلَ الأحاديثَ على مَحْمَلٍ مَحْمَلٍ.