فَقَصَر البول على بول الناس، ونصَّ عليه، ولم يُرِد به مطلق البول، واختار طهارة بولَ مأْكُول اللحم، وحينئذٍ يقتصر قوله: يستزهوا من البول، على بول النَّاس عنده، بل يُسْتَفَاد من تراجمه: أنه اختار طهارة الأبوال سوى بول الإنسان، وقال الشارحون: إنه اختار مذهب داود الظاهري القائل بطهارة الأبوال والأذبال غير عَذِرَة الإِنسان والخنزير والكلب. قلت: وقد مرّ مني في الباب السابق: لفظ الاستنزاه والاستبراء يُشْعِرُ بأنَّ المراد منه بول الإِنسان، فإِنه لا يتحقَّق إلا في الإِنسان، فلفظ الاستنزاه في هذا الحديث يُوميء إلى أن المُرَاد به بول الناس خاصةً، وحينئذٍ يسقط الاحتجاج به على نجاسة سائر الأبوال.
والقرينة الثانية على أن المراد به بول الناس فقط: ما رُوِيَ عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أصابهم البول يَقْرِضُون جلدهم بالمَقَاريض. وأوَّلَهَ ابن دقيق العيد، وقال: إن المراد من قطع الجلد هو قطع الفَرْوِ دون قطع الجسد، فإِنه مُسْتَبْعَدٌ.
قلت: ورأيت في بعض الألفاظ قطع الجسد أيضًا، ثم رأيت في «مصنَّف ابن أبي شيبة»(١): «أنهم كانوا مأمورين بقطع الثوب في الدنيا، أمَّا قطع الجلد، فكان عذابهم به في قبورهم». فتبيَّن لي أن هذا القطع كان طريق عذابهم في القبر، وأظنُّ أن أثره باقٍ في هذه الأُمّة أيضًا، وإن كان خُفِّفَ فيه بنوعٍ، والله أعلم.
(١) ومصنفه صنف قبل البخاري، وابن أبي شيبة من رجال مسلم، كذا في تقرير الفاضل عبد العزيز من الزيادة.