يتعلق بصدر الكلام أي {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ}{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} إلخ. ويقال له الطَّرْدُ والعكس في مصطلحهم فاعلمه (١).
١ - باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْحَيْضِ وَقَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - «هَذَا شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ»
وَقَالَ بَعْضُهُمْ كَانَ أَوَّلُ مَا أُرْسِلَ الْحَيْضُ عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ، قال أبو عبد الله وَحَدِيثُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرُ
(١) قلت: وقد كنتُ في سالف من الزمان كتبتُ في تلك الآية تذكرة حين أشكل عليَّ قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} إلخ، فإِنه عين ما كان اليهود يفعلونه، ثم لما رأيتُ قوله: "اصنعوا كل شيء إلَّا النكاح، ازددت مرضًا إلى مرضي، لأنه نقيض ما يتبادر من الآية، فلم يكن التفسير يلتئم بالآية في الظاهر، وليست تلك التذكرة عندي حاضرة الآن، وحاصلها كما أحفظ: أن الله سبحانه صَدَّر قوله بأن المحيض {أَذًى} أي فلا يُعَامل معه إلّا ما يُعَامل مع الأذى، وهو الاجتناب والاعتزال عنه فقط، لا كما كان اليهود يفعلونه من المتاركة مطلقًا، فإنه تعمُّق وحُمْقٌ، ولا كما نُسِب إلى النصارى أنهم كانوا يخالطونهن في تلك الأيام، فلا يُعَامَلون معه ما كان ينبغي أن يعامل مع الأذى، فهؤلاء كانوا يشددون في أمره فوق ما أراده الشارع، وهؤلاء كانوا يستخِفُّون بما أمرهم الله سبحانه، فكأنهم كانوا على طرفي نقيض، ويجب في مثل هذا الموضع رعايةُ الطرفين ولا يوفي حقّه إلّا القرآن فقال: إن المحيض لا يزيد على كونه أذىً، وإذا كان كذلك فعاملوا معه ما يعامل مع الأذى، وهو الاعتزال لا غير. ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلّا النكاح" لأن الأذى حقُّه أن يُجْتَنَبَ عنه فقط دون ترك البيوت، ففي قوله: {أَذًى} رعايةٌ لليهود فإنهم كانوا يشددون في أمره كل التشديد وفي قوله: {فَاعْتَزِلُوا} رعايةٌ لجهة النصارى، لأنهم كانوا يهوّنون فيه كل التهوين، فهداهم القرآن يلى ما كان ينبغي وما لا ينبغي. ولا ريب في أن المطلوب هو الاعتزال وعدم القُرْبِ كما عند أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت إذا حِضتُ نزلتُ عن المِثَال على الحصير فلم نقرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم نَدْنُ منه حتى نطهر". انتهى. ولكن الغرض من أمر الاعتزال هو النهي عن الجماع أو ما يقربه، فأشار إليه بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} ومعلوم أنه لم يُبحْ في آخرها إلّا ما كان نهى عنه في أولها، وإلّا فالظاهر: فإذا تطهرن فاقربوهن، ليناسب قوله {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} ولكنه أشار بالنهي عن القرب أولًا والإباحة بالجماع آخرًا أن المقصود الأصلي من نهي القرب هو هذا، ولو قال: لا تجامعوهن لم يلتئم مع قوله: {هُوَ أَذًى} في الأول، وقوله: {فَاعْتَزِلُوا} في الآخر، مع أنه مطلوب كما علمتَ، لَبقِيَتْ فيه إشارة إلى الاستمتاع بما دونه من حاق النص، مع أن القرآن لا يأخذ في التعبير إلّا ما يكون أعلى وأرضى للربِّ وأبعد عن المأثِم، فلا يأمر أحدًا أن يَرْعَى سارِحَتَه حول الحِمَى، فرعاية الأطراف وإحاطة الجوانب مع بيان الحقيقة سواء بسواء، والإِيماء إلى المقصود كما هو بحيث لا يبقى فيه إبها للعامل ومجال للمجادِل، مما يعجز عنه البشر، وإنما هو شأن خالق القُوَى والقَدَر.