واعلم أنَّ الحديثَ صريحٌ في أنَّ الهجرة من دار الحرب إلى دار الإِسلام لا تجبُ مطلقًا، وإن كانت عزيمةً إذا وُجِدَ دارُ الإِسلام على وجهه. أما القرآنُ فإِنَّه استمر بالذمِّ على تاركها، وذلك لأن من دأب القرآن أنه إذا استحبَّ أمرًا استمر بمدحه، وكذا بالذم على تاركه. نعم، يُوميءُ إلى الجوازِ من عَرْض كلامه، كالهجرة، فإنَّه كرِه تركَهَا، فاستمر بالذم على مَنْ تَرَكَها، ومع ذلك أشار إلى الجوازِ في قوله:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}[النساء: ٩٢] فترشَّح منه أن المؤمنَ له أن يَمكُثَ في دار الحرب، فإنْ قُتِلَ، ففيه الحكم المذكور، فالمقصودُ منه ذكر الكفارة، والمرموزُ جَوَازُ المُكْثِ في دار الحرب، وهذا بخلاف دأب الحديث، فإنَّه قد يصرحُ بالجائزات أيضًا، وإن لم تكن مرغوبةً عنده.
قوله:(من وراء البحار) وهذا كقولنا في العُرف: (سات سمندريار).
وقد مر أن المصنفَ جَوَّز الاستبدال بالقيمة، وأنه أخرجَ فيه عن الأنصاري، وهو عبد الله بن المُثَنَّى - حنفيُ المذهب - ونُسِبَ إلى سوءِ الحفظ، وكان عنده حديث طويل في باب الزكاة، فَبسَطَ المصنفُ رحمه الله قِطعاته في هذا الباب. ثم قيل: إنه لِمَ ذكر - بنتَ المَخَاض - في حديثه؟ والجواب: أن المصنف قاسَهُ على بنتِ اللَّبُون، وإنما لم يُخرِّج حديث بنتِ المَخَاض مع كونه عنده، كما في صدر الصحيفة، ليدل على أنَّ المسألةَ أعمُّ منه.