وأما المصنِّفُ رحمه الله تعالى فلم يوسِّع هذا التوسيعَ، حيث حجر عن مطلقِ الصلاة عند طلوعِ الشمس، وألان الكلامَ فيما بعد العَصْر وبعد الصُّبْحِ. وقد علمتَ التفاصِيْلَ فيما مَرَّ.
١٨ - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِى الْعِبَادَةِ
١١٥٠ - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ دَخَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ فَقَالَ «مَا هَذَا الْحَبْلُ». قَالُوا هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ». تحفة ١٠٣٣
قالت طائفةٌ مِمَّن أدعوا العملَ بالحديثِ مِمْ غيرِ عِلْمٍ وعمل: إنَّ الاجتهادَ في العبادة بِدعَةٌ. قلت: فأين هم من قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧)} [الذاريات: ١٧]. كيف وَصَفَهم بالاجتهاد. ومِثْلَهُ غيرُ قليلٍ في القرآن، ودَعْوَى النَّسخ جَهْلٌ. وقد ورد في فَضْل إكثارِ العبادةِ والاجتهاد في العمل غَيْرُ واحدٍ من الأحاديث، مع الترغيبِ في القَصْد فِي العمل. وهذا الباب إينا يُشْكِلُ جَمْعُهُ على مَنْ لا يُرْزَقُ فَهْمَا سليمًا.
واعلم أن وراء ذلك سرًا، وهو أنَّ الله تعالى خَلَق الناسَ على طبائعَ مختلفةٍ: فمنهم: مَنْ يكون قويَّ الهِمَّة قَوِيَّ العَمَل، فيعملُ بِأَخْذِ العزائم ويُعْرِضُ عن الرُّخَصْ، يُحِبُّ أن يستغرق أوقاتِهِ كلَّها في طاعة الله عز وجل، ويُنْفِقُ ماله حى يقومَ وما عنده شيءٌ ويُغازي في سبيله حتى يَفْقِد نَفْسه ومالَه. لكنَّ هؤلاء قليلون لو شِئت لعددتُهم على الأصابع.
ومنهم مَنْ هو دون ذلك، فلا يستطيعُ أن يسيرَ سَيْرَه فيطلب في الدِّيْن فسحةً ورخصةً، وعلى قَدْر كل منهم جاءت الأحكامُ. غيرَ أنَّ عامةَ الناسِ كما قد سُيِّرت يَضْعُفونَ عن الأحكامِ الصعبةِ، فجاءت عامةُ أحكامِ الشرع أيضًا تُبنى على اليُسْر. ففرَضَ عليهم في اليوم والليلة خَمْسَ صلواتٍ فحسب. وأُبيح لهم جَمْعُ قِنطار من الأموال بعد أداءِ الزكاةِ، وجُعِلَ لأنفسِهم وأعينِهم وزوَّارهم حَقٌّ، فلم يَرغَبوا إلا بصوم داودَ.
ولما كان خيرُ الأعمالِ ما ديم عليه نُهوا عن الإِكثارِ في العبادةِ والاجتهاد في العمل فوقَ ما يُطِيْقُون، لئلا يَفْتُروا، فإنَّ إثْرَ كلِّ شرة فترة. كيف وقد كان مُعَلِّمَا للأجلافِ والأَعرابِ، فشرَع لهم من الدِّين ما تَيسَّر لهم، ولم يكلِّفْهم إلا بما يُطِيقون، ولم يرغِّبْهم إلا بما تُرجى الإدامةُ منهم عليه، فقال:«لن يشادَّ الدِّيْنَ أَحدٌ إلا غَلَبَه». أو كما قال - أي كأنَّ في الدِّين أحكامًا لو شاء