الرَّجلُ أن يأخذَ بِكُلِّها عَجَز، فسدِّدُوا وقارِبُوا، فكان هذا ضربًا من التعليم، ونحوًا من البيان، ولا يريدُ به الذَّمَّ على مَنْ جعل نَفْسه لله وجعل دُنْياه وراءَ ظهره.
فدع العباراتِ وخُذْ بالمرادِ، فإنَّ ذلك سبيلٌ السداد. ومَنْ لا يراعِي أساليبَ الكلامِ يختبِطُ بكلِّ وادٍ. مِنْ أجلِ ذلك خَبَطُوا فِي مراد غير واحدٍ من الأحاديث: منها ما في «المشكاة»: «إذا سلط عليكم أمراءُ ظلمةٌ فلا تدعوا عليهم وأَصلحوا أنفُسَكم، فاإنَّكم كما تكونون كذلك يُؤمَّرُ عليكم». - بالمعنى - فسبق إلى بعضِ الأوهام أَنَّ في الحديثِ نهيًا عن الدعاء على الأمراء ولو كانوا ظالمين، ولم يفقهوا أنه ضَرْبٌ من البيان، ونَوْعُ من العُنوان فقط. والغَرَضُ منه توجِيهُ الناسِ إلى أَمْرٍ أَهمَّ منه. فإنَّ الإنسانَ في سجيته أَنه إذا ابْتُلِي بِأَمْثَالِ تلك المظالمِ يذهل عن أحوالِ نَفْسه، ويجعلُ الدعاءَ على الظالم وظيفتَهُ. فَوَجَّههِ الشَّرْعُ إلي أَمْرٍ قد يكونُ غَافِلا عنه في هذا المَوْضِع مع كونه أَهَمَّ، وهو إصلاحُ أحوالِ نَفْسهِ أيضًا. وعلَّمهم أنَّ الاشتغالَ بإِصلاحِ أعمالهم أَقْدَمُ وأَهَمُّ من الدعوة عليهم فقط. فإنَّها ماذا تُغني عنهم إذا كانوامشغوفين بالأَهواء واللذائذ، فأَوْلى لهم بهذا العذاب، ثُمَّ أولى لهم. فالأصلُ النافع لهم أَنْ يقدِّمُوا ما ذهلوا عنه رَأَسًا إلى إصلاحِ النَّفْس، وأن يُؤخِّرُوا ما جعلوه بمرأى أعينُهم، أي الدُّعاء عليهم.
فالحديث لم يَرِد في ذمِّ الدعاءِ عليهم، بل في ذَمِّ ذهولِهم عما كان أنفعَ لهم وأهمَّ، وكان ذلك نَحْوَ تعبيرٍ لهم لهذا المَقْصد في غاية الفصاحة والبلاغة فلم يدرِكوه، وعَضُّوا بالألفاظ فلم يُوَفَّقوا لإِدراك المراد. وذلك لأنَّ فيه تنزيلَ شيءٍ ليس له عبارةٌ في نَظَر الشَّارع مَنْزِلَةَ العدم. وإنَّما احتاجَ إلى هذه العنايةِ ولعبادتِهم بتلك الجهةِ، وذهولِهم عن الأهمَّ الأَقْدَم.
ومن هذا الباب ما روي فِيْمَن صلَّى التهجُّدَ ثُمَّ تَرَكَه أَنَّه لو لم يُصلِّه لكان أَحْسَنَ بالمعنى جَعَلَه الناسُ أيضًا معركةً لِبَحْثِهم في فَضْل مَنْ تهجَّدَ ثُمَّ تَرَكه، ومَنْ لم يتهجَّد رأسًا، وما ذلك إلا لعدم عنايتِهم بأنحاء الكلام، وفَهْم المَرَام. ولو تَفَحَّصُوا فيه لعلموا أن في الحديثِ تأكيدًا أكيدًا للتهجُّد، وليس فيه المفاضلة بين هذين، ولا حرف. فهو كقول الأستاذ لتلميذه عند تأديبه: لو أنك ما تعلمت كان خيرًا لك، فكما أن كلَّ أحَدٍ يعلم أنه ليس فيه تحريضٌ على عدمِ تَعَلُّمِه، بل فيه تأكيدٌ لِتَعَلُّمِ حَقَّ التعلم. كذلك في قَوْل النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ليس فيه بيانُ المفضوليةَ مَنْ تهجَّد ثم تركه، بل فيه ترغِيبٌ وتحريضٌ لِمَن أَدَامَ عليه، وتعنِيفُ وتعبيرٌ على مَنْ صَلاهُ ثُمَّ تَرَكَه.
ومِنْ هذا القبيل قولهُ صلى الله عليه وسلّم «مَثَلُ أُمْتِي كَمَثَلِ الْمَطَر، لا يُدْرى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَم آخِرُهُ». فحمله بَعْضٌ مِنْ الكبار على ظاهره، وجَوَّز فَضْلَ بَعْضٍ مَنْ يأتي من أمته على بعضِ الصحابة رضي الله عنهم، مع أَنَّه ضَرْبُ مَثَلٍ لِبيانِ الخيريةِ في جميع أُمَّتِهِ على حَدِّ قوله:
*أيوم نداه الغُمْر أم يوم بأسِه ... وما منهما إلا أَغَرٌّ مَحَجَّلُ
وبالجملة كثيرًا ما يُساق الحديثُ على مجرى محاوراتِ الناس ومخاطباتهم. ومَنْ يذهلُ عن أساليب الكلام وأنواع الخطابات يَعَضُّ بالألفاظ، فيقع في الأغلاط. فإنَّما عَنَى من النَّهي