وحده يكفي للنجاة عندهم، حتى اشتهر القول عنهم: بأنه لا تضرُ مع الإيمان معصية. وعلى خلافهم الكرَّامية، فإنهم زعموا أن الإقرار باللسان يكفي للنجاة، سواءٌ وُجِدَ التصديق أم لا، فكأنهما على طرفي نقيض. وعندنا لا بد من الإقرار أيضًا، إما شطرًا أو شرطًا.
قال التفتازاني: إن الإقرار لو كان شرطًا لإجراء الأحكام فلا بد أن يكون على وجه الإعلان والإظهار للإمام وغيره من أهل الإسلام، وإن كان لإتمام الإيمان، فإنه يكفي مجرد التكلم به وإن لم يظهر على غيره. ومن جعل الإقرار ركنًا كالتصديق فرّق بينهما بكون التصديق لا يحتملُ السقوطَ في حال، بخلاف الإقرار، فإنه يسقطُ عند الأعذار. وفي «المسايرة» وجَعْلُ الإقرار بالشهادتين ركنًا من الإيمان هو الاحتياط بالنسبة إلى جعله شرطًا خارجًا عن حقيقة الإيمان. ثم إنه شرطًا كان أو شطرًا، لا بد منه عند المطالبة عند الكل، فإن طُولِبَ به ولم يُقر، فهو كافر كفر عناد، وهو معنى ما قالوا: إنّ تَرْك العناد شرطٌ في الإيمان. كذا صرح به ابن الهمام رحمه الله.
تنبيه: وههنا إشكالٌ يردُ على الفقهاءِ والمتكلمين وهو أن بعضَ أفعال الكفر قد توجد من المُصدِّق، كالسجود للصنم والاستخفاف بالمصحف، فإن قلنا: إنه كافر، ناقض قولنا: إن الإيمان هو التصديق. ومعلومٌ أنه بهذه الأفعال لم ينسلخ عن التصديق، فكيف يُحْكم عليه بالكفر؟ وإن قلنا: إنه مسلم، فذلك خلافُ الإجماع. وأجاب عنه الكَسْتلِّي تبعًا للجُرْجَاني: أنه كافر قضاءً، ومسلم دِيَانَة. وهذا الجواب باطلٌ مما لا يُصْغى إليه، فإنه كافر دِيَانة وقضاءً قطعًا، فالحق في الجواب ما ذكره ابن الهمام رحمه الله تعالى، وحاصله: أن بعض الأفعال تقوم مَقَام الجحود، نحو العلائم المختصة بالكفر، وإنما يجب في الإيمان التبرؤ عن مثلها أيضًا، كما يجب التبرؤ عن نفس الكفر. ولذا قال تعالى:{لَا تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَنِكُمْ}[التوبة: ٦٦]، في جواب قولهم:{إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}[التوبة: ٦٥]، لم يقل: إنكم كذبتم في قولكم، بل أخبرهم بأنهم بهذا اللعب والخوض اللذين من أخصِّ علائم الكفر خلعوا رِبْقَةَ الإسلام عن أعناقهم، وخرجوا عن حِمَاهُ إلى الكفر، فدل على أنّ مثلَ تلك الأفعال إذا وجدت في رجل يُحكم عليه بالكفر، ولا يُنظر إلى تصديقه في قلبه، ولا يلتفت إلى أنها كانت منه خوضًا وهزأً فقط، أو كانت عقيدة. ومن ههنا تسمعهم يقولون: إن التأويل في ضروريات الدين غيرَ مقبول، وذلك لأن التأويلَ فيها يُساوِق الجحود وبالجملة: إن التصديق المجامعُ مع أخصِّ أفعال الكفر، لم يعتبره الشرع تصديقًا، فمن أتى بالأفعال المذكورة فكأنه فاقدٌ للتصديق عنده وأوضحه الجصَّاص، فراجعه.
المحورُ الذي يدورُ عليه الإيمان
وإذا قد علمت أن التَّصديقَ والتسليمَ والمعرفةَ واليقينَ كلُّها يُجَامِعُ الجحود، فلا بد من تفسير يتميز به الكفرُ من الإيمان. كيف وهذا القرآن يشهدُ بمعرفة الكفار، قال تعالى:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ}[البقرة: ١٤٦] وهذا أبو طالب يُقِرُ بنبوتِهِ ونباهته صلى الله عليه وسلّم ويُعْلنُ بها في أبياته، حتى دارت وسارت، فيقول: