وتَكَلُّفِ القِيَاسِ، وقوله في الباب بعده: ممَّا عَلَّمَه اللهُ، لَيْسَ برأي ولا تمثيلٍ. فَأَطْلَقَ في ذمِّ القياس، ولم يُوم إِلى تفصيلٍ بين قياسٍ وقياس. ولذا أَقُولُ: إنه يُنْكِرُهُ مطلقًا. ولمَّا كان الشَّارِحُون مُتَمَذْهِبينَ بمذاهب الأئمة الأربعة، وفيها العملُ بالقياس، قالوا: إن المصنِّفَ إنَّما ذَمَّ الفاسدَ منه لا مطلقًا.
قلتُ: أمَّا حُجِّية القياس، فكما ذكرتم، وأمَّا كون البخاريِّ أيضًا ذَهَبَ إليه، فلا أَفْهَمُهُ من كلامه. وإنما السبيلُ أن يُدْرَكَ مراد المتكلِّم أولًا على وجهٍ أَرَادَهُ، لا تأويله من الرأس، فإنه ربما يَعُودُ توجيهًا للقول بما لا يَرْضَى به قائله. فالذي يَظْهَرُ لي أن مذهبَهُ فيه كالظاهريِّ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
فإن قلتَ: إنه كيف يُنْكِرُ القياسَ، مع وفور الأقيسة منه في كتابه؟ قلتُ: ولعلّه لا يسمِّيه قياسًا، ولا يَعْمَلُ به، ولكن يَعْمَلُ بتنقيح المناط. ومحصَّل الفرق بينهما: أن النصَّ إذا وَرَدَ بموردٍ يَنْظُرُ فيه المجتهدُ، فيميِّز بين الأوصاف المؤثِّرة وغيرها، فإذا نقَّحها يَعُمُّ النصُّ لا محالة عن مورد النصِّ، ويَدُورُ حكمُهُ على تلك الأوصاف أينما وُجِدَت. وحينئذٍ متى ما يتحقَّق المناط الذي حقَّقه، يتحقَّق الحكمُ المنصوصُ أيضًا. فالنظرُ فيه أولًا يكون في النصِّ، وثانيًا في الجزئيات الخارجية، ثم حكمُها لا يُتَلَقَّى من جهة قياسها على أصلٍ، بل من تحقُّق ذلك المناط فيها. بخلاف القياس، فإنَّه لا نَظَرَ فيه أولًا إلى النصِّ، بل النظرُ أولًا في الجزئيات، فإذا طَلَبَ لها المجتهدُ حكمًا، نَظَرَ إلى النصوص لِيُلْحِقَهَا بأقربها، فإذا صادق نصًّا علَّله، وبالتعليل يَعُمُّ لا محالة. وحينئذٍ يَسُوغ له أن يَأخُذَ حكم تلك الجزئيات من ذلك النصِّ. فالنظرُ فيهما بين النصوص والجزئيات متعاكسٌ.
وهذا، وإن اتَّحدا في المآل، ولكنهما عَمَلَان مُتَغَايِرَان يَتَفَاوَتَان قوةً وضعفًا. وقد أَجَادَ الغزاليُّ في إثبات حُجِّية القياس، فراجعه من «مستصفاه». قلتُ: إن أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يَعْمَلُون بالقياس الجليِّ، ولا أراهم يتأخَّرُونَ عنه، حتَّى قال ابنُ جرير الطبري: إن إنكارَه بدعةٌ، وقد ذكرنا الاستدلالَ على حُجِّيته آنفًا بالنصِّ.
١ - باب قَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم -: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ»
٧٢٧٣ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِى أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِى يَدِى». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا أَوْ تَرْغَثُونَهَا، أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا. أطرافه ٢٩٧٧، ٦٩٩٨، ٧٠١٣ - تحفة ١٣١٠٦