للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

١٩٧٥ - قوله: (فإن لجسدكَ عليكَ حقًّا) ... إلخ، يعني أن أداءَ حقوق الله مع مراعاة حقوق النفس من مَعَالي الهِمَمِ. أمَّا الاجتهادُ في العبادة حتى يُجْهِدَ نفسه، فليس بكمالٍ.

٥٦ - باب صَوْمِ الدَّهْرِ

وقد مرَّ منا التنبيهُ على أن صومَ الدهر أن يَصُومَ السنةَ كلَّها غير الأيام المنهية، مع الفِطْرِ بعد الغروب. فهو غيرُ الوِصَال، فإنه وصالُ صومٍ بصومٍ، بدون الإِفطار. ولا خلافَ في كونه جائزًا وموجبًا للأجر، وإنما الخلافُ في أن الأفضلَ صومُ داود، أو صومُ الدهر؟ فالأفضلُ عندنا: صومُ داود، وعند الشافعيِّ: صومُ الدهر. وعامةُ الأحاديث حُجَّةٌ للحنفية، وأقلُّها حُجَّةٌ لهم. والحقُّ أن لا فَضْلَ في الأحاديث، لأن من يَرَى صَومَ الدهر مفضولا يحتجُّ بالنفي، وهو قوله: «لا صَامَ ولا أَفْطَرَ»، ومن يَرَاهُ أفضل يَحْمِلُهُ على الشَّفَقَةِ، فأي فصلٍ هذا؟.

ووقع في بعض كُتُبِ الحنفية أنه مكروه، وكذا يوم عاشوراء منفردًا، مع كونه عبادةً عظيمةً، وكفَّارةً لسنةٍ واحدةٍ. قلتُ: كيف وقد صامه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم عشر سنين، فهل يَجْتَرِىءُ أحدٌ أن يَحْكُمَ بالكراهة على أمرٍ فعله النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وهل يُقْصَرُ النظر في مثله على قوله: «لأَصُومَنَّ التاسعة»، أو يُنْظَرُ إلى فعله في الغابر أيضًا. والذي ينبغي: أن لا يُقْطَعَ النظرُ عمَّا فَعَلَهُ في الغابر أيضًا. وكذلك صومُ الدَّهْرِ عِبادةٌ إجماعًا، إلا أنه مفضولٌ عندنا، مع الجواز بلا كراهةٍ. وهكذا فَعَلَهُ صاحبُ «الدر المختار» في غير واحدٍ من العبادات، فأطلق عليها الكراهة، مع كونها مفضولةً فقط. وهكذا فَعَلَهُ النوويُّ، فقال: إن التمتعَ والقِرَانَ مكروهان مع كونهما عبادتان بلا خِلافٍ. ولعلَّهم أَطْلَقُوا المكروهَ على معنى المفضول. وأجدُ في باب الصيام أنهم أَطْلَقُوا المكرورهَ على المفضول أيضًا. نعم ما أطلقوا عليه من المكروه في باب الصلاة، فهو كذلك في نفس الأمر.

١٩٧٦ - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّى أَقُولُ وَاللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ، وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ، مَا عِشْتُ. فَقُلْتُ لَهُ قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى. قَالَ «فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ». قُلْتُ إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ». قُلْتُ إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ «فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، فَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهْوَ أَفْضَلُ الصِّيَامِ». فَقُلْتُ إِنِّى أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ». أطرافه ١١٣١، ١١٥٢، ١١٥٣، ١٩٧٤، ١٩٧٥، ١٩٧٧، ١٩٧٨، ١٩٧٩، ١٩٨٠، ٣٤١٨، ٣٤١٩، ٣٤٢٠، ٥٠٥٢، ٥٠٥٣، ٥٠٥٤، ٥١٩٩، ٦١٣٤، ٦٢٧٧ - تحفة ٨٦٤٥، ٨٩٦٠ - ٥٢/ ٣

١٩٧٦ - ثم إن قوله: «ثلاثة من كلِّ شهرٍ، كصيام الدهر» - بالمعنى، لا يقومُ حُجَّةً للحنفية، لأن قولَهُ: كصيام الدَّهْرِ، وَقَعَ مَعْرِضَ التشبيه، فهو لِحَاظٌ ذهنيٌّ. والذي ينبغي للمُشَبَّه به أن يكونَ أقوى، سواء كان بَحَسَبِ الخارج، أو بحَسَبِ الذِّهن. وقد مرَّ منَّا غير مرةٍ واحدةٍ أن أخذَ المسائل من التشبيهات تمسُّكٌ ضعيفٌ جدًا. أَلا تَرَى إلى قوله في باب الزكاة: «من كلِّ أربعين دِرْهَمًا دِرْهَمٌ»، بيانٌ للحساب، والنظر فقط. أي خمسة دراهم في مائتي دِرْهمٍ بهذا النظر، وبهذا الحساب. فلم يَذْهَبْ هناك أحدٌ إلى أنه يَجِبُ في أربعين دِرْهَمًا دِرْهمٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>