إلى ظواهر الأحاديث، وكان عثمان رضي الله عنه أَفْقَهَهُمْ، فنظر إلى المصالح، وإنَّما لم يعلنه النبي صلى الله عليه وسلّم بِنَفْسِهِ المباركةِ الطيبة خشيةَ غُلُوِّ العوامِّ فيه فَوْقَ ما أراده الشارع، وفي الروايات أنَّ الصّحابةَ رضي الله عنهم لمَّا اعترضوا عليه قَامَ على المِنْبَر وَحدَّثهم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم قال:«من بنَى لله مسجدًا بنَى الله له بيتًا في الجنة مثله»، فَحَمَلَ المِثْلِية في الكيفية أيضًا؛ وكَتَبَ السُّيُوطِيّ رحمه الله تعالى في «حاشية أبي داود»: أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه لمَّا وَرَدَ المدينةَ وعَلِمَ القِصَّة روى الحديث مرفوعًا وقال: إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم أَخْبَرَ بتجصيص هذا المسجد فَسُرَّ به عثمان رضي الله عنه وأَعْطَاهُ خمس مئة دينارًا، قال الحافظُ رحمه الله تعالى أنَّ نَقْشَ المساجد إذا كان على سبيل التَعْظِيم ولم يُنفق له من بيت المال فهو رُخْصَة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وقال ابن المُنَيَّر: لمَّا شَيَّدَ النَّاسُ بيوتهُم وزخرفها: أَنَّه لا بَأَس بأَنْ يُصْنَع كذلك بالمساجد صونًا لها عن الاستهانة، فالأَصل هو عدم التَجْصِيص، لَكِنِ الآن يُناسب التجصيص لاختلافِ العصر والزَّمَان ولا يُعدُّ ذلك خلافًا للأحاديث، إلا ترى أَنَّه لو لم يَكُنْ السَّلاطين جصصوا المساجد لما وَجَدْتَ اليوم مَسْجِدًا على وجه الأرض، وانْدَرَست رسومُها وعَفَتْ آثارُها، فدعت المصالح إلى تَجْصِيصها ولا سيما في البلاد التي غلبت عليها الكفر.
ثم اعلم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم بَنَى المسجدَ مرتين، مرة ستين في ستين، ومرة أخرى بعد خيبر مئة في مئة، ثم زاد فيه عمر رضي الله عنه في زمانِهِ، وزادَ فيه عثمان كَمَّا وكَيفًا، وميَّزَ بعضُ السلاطين تلك الزيادات بأماراتٍ يتمايزُ بها بناؤُه قَبْلَ خيبر وبعدَهُ، وبناء عمر رضي الله عنه من بناء عثمان. وأما زِيادات سائر السلاطين فغيرُ متميِّزَة كذا في كتب السِيَر - وفيها حُجَرُ أمهاتِ النِّساء بُنيت بعد تعمير المسجد النبوي.
قوله:({ما كان للمشركين .. } الآية) وفي «المَدَارِك» تحت تفسيره أن إِعانة الكافرِ في المسجد لا تجوز، وكذا في «المستصفى» لصاحب «الكنز» في «الفتاوى السعدية» للمفتي سعد الله الرَّامفوري إلا أنْ يَهَبَ ماله مسلمًا ثم يبنيهِ المسلمُ بذلك المال، فهذه حِيلة لصرف أَموال المشركين في المساجد.