للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٤٩ - باب الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ

٢٠١ - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ حَدَّثَنِى ابْنُ جَبْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَغْسِلُ - أَوْ كَانَ يَغْتَسِلُ - بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ. تحفة ٩٦٣

واعلم أنهم اتفقوا على أنَّ الصَّاع أربعة أَمْدَاد، واختلفوا في تقدير لمُدِّ: فقال العِرَاقِيُون: إِنَّ المُدَّ رَطْلان، وقال الحِجَازِيُون: إنَّه رَطْلٌ وثُلُث. وعلى هذا يكون الصَّاعُ ثمانية أَرْطَالٍ عند العِرَاقِيين، وخمسةُ أَرْطَالٍ وثُلُث عند الحِجَازِيين.

قلت: ولا يمكن لأحدٍ أن يُنْكِرَ صَاعَ العِرَاقِيين، فإِنَّه كان مُسْتَعْمَلًا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلّم قَطْعًا، لِمَا رُوِيَ من غير وجهٍ: «أنه كان يتوضأ بالمُدِّ». ثم أَخْرَج أبو داود عن أنس قال: «كان النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يتوضَّأ بإِناءٍ يسع رَطلين» ... إلخ. وفيه شَرِيك، وأَخْرَجَ عنه مسلم، وعند النَّسَائِي عن موسى الجُهَنِي قال: «أتى مُجَاهِد بقَدَحٍ حَزَرْتُه ثمانية أرْطَالٍ، فقال: حدَّثني عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يَغْتَسِلُ بمثل هذا». وعند الطحاوي عن إبراهيم قال: «قدَّرْنا صاعَ عُمر، فوجدناه حَجَّاجِيًّا»، والحَجَّاجِيّ عندهم: ثمانية أرْطَال.

والحافظ لمَّا مرَّ على صاعنا سمّاه حَجَّاجِيًّا، ولم يُسَمِّهِ فَارُوقِيًّا، مع أنَّ الحجَّاج إنما صَنَعَ صاعَهُ على صاع عمر، وكان يَفْتَخِرُ عليهم بذلك، وهو صاع عمر بن عبد العزيز أيضًا، فأصله عن عمر رضي الله عنه، والحَجَّاج شَهَرَه لا أنه صنعه هو. ومنهم مَنْ أَرَادَ من كونِه عُمَريًّا عمر بن عبد العزيز، وهو أيضًا عُدُولٌ عن الصواب. فإِن صاعَنا ثَبَتَ في عهده صلى الله عليه وسلّم ثبوتًا لا مردَّ له.

وفي الباب روايات أُخْرَىَ تدلُّ على مذهبنا، إلاّ أنَّا لم نُرِدْ اشتيعابها، لأنَّه لا يسع لأحدٍ أن يُنْكِر على صاع الحنفية، وأقرَّ به ابن تيمية رحمه الله تعالى، إلاّ أنه قال: إنَّ الصَّاعَ في الوضوء والغُسْل ثمانية أَرْطَال، وفي صدقة الفِطْر خمسة أَرْطَال وثُلُث. ونحن نقول: إنَّ الاحتياط أن يؤخذ في جميع المواضع بثمانية أرْطَال.

ثم اعلم أنَّه أخرج ابن حِبَّان في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قيل له: إِنَّ صاعنا أصغر الصِيعَان، ومُدَّنا أكبر الأَمْدَاد فقال: اللهم بارك لنا في صاعنا، وبارك في مُدِّنا»، ولا يبدو في بادي النظر مَحَطُّ سؤالهم، فإِنَّ كون الصَّاع صغيرًا، والمُدّ كبيرًا لا يظهر فيه معنى الشِّكَاية. وكنت مترددًا في مراده حتى رأيت عبارة في «موطأ مالك» رحمه الله تعالى في الظِّهِار، انكشف بها المراد، وأخذت منه أَنَّ المُدَّ عندهم كان باعتبار طعام رجلٍ واحدٍ، وكان مِكْيَالُهم لطعامهم وشرابهم مُستْعمَلًا فيما بينهم في التجارات. وفي المقدار الكثير يطبخون الطعام كَيْلًا في زماننا أيضًا، وحينئذٍ حاصل سؤالهم: أن المُدَّ الذي نستعمله في البيوت في طعامنا كبيرٌ، والصاع الذي في التجارات صغيرٌ، فكأنهم شَكُوا من كثرة المصارف وقلة المال، فدعا لهم: «اللهم بارك لنا ... » إلخ. وحملوه على البركة المعنوية، وحَمَلْتُه على البركة الحِسِّيَة أيضًا، حيث صار

<<  <  ج: ص:  >  >>