وقد مرَّ فيه قولان، ثُم إذا حَلَّله، فليس له رجوعٌ، ليس بمالٍ يُمْكِنَ الرجوعُ عنه.
٢٤٤٩ - قوله:(قال أَبُو عَبْد الله: قال إسماعيل بنُ أَبي أُوَيْس) ... الخ وإسماعيلُ بنُ أبي أُوَيْس هذا شيخُ البخاري، وابنُ أُخت الإِمام مالِك، وقيل: إنه كان يزورُ حكاياتٍ كاذبةً في تأييد خالِه، ولذلك لم يأخذ عنه النسائي، ثم البُخاري أَخَذَ عنه.
[فائدة مهمة]
واعلم أَنَّه قد يذهب إلى بعض الأَوهام أن المُحدِّثين إذا أخذوا الأحاديثَ عمَّن رُمُوا بالكَذِب أيضًا ارتفع الأمانُ عن الأحاديثِ، ولماذا بقي الاعتماد عليها؟ قلت: وذلك باطلٌ قطعًا، فإِنَّ الحديثَ إذا صار فنًا مستقلا، ولم يبق للأساتذةِ والشيوخ مدخلٌ فيه، كيف يُورِثُ ذلك خَلْطًا أو خبطًا نعم كان ذلك لو كان الحديثُ يُكتب شيئًا فشيئًا، لأدَّى ذلك إلى تخليط، ولكن الذين دَوَّنوا الحديثَ لم يكتفوا بطريقٍ واحدٍ، حتى مارسُوه بطرقٍ متعدِّدة، وتتبعوه عن مشايخَ متفرقةٍ، حتى تبينَ لهم صِدْقُه من كذبه، كَفَلَق الصُّبح؛ فهؤلاء كانوا يعرفون محاله ومظانَّه، فإِذا جمعوا الطُّرُقَ والأسانيدَ انكشفت لهم العِلَلُ، وأسبابُ الجَرْح كلُّها، فلم يدونوه إلا بعد ما حَقَّقُوه ومارسوه. وبَعْد هذا البحثِ والفَحْص لو اشتمل حديثٌ على أَمْرٍ قادح لم يقتص ذلك قَدْحًا في نَفْس الأحاديث أصلا؛ فإِنَّه مَخْرَجَه معلومٌ، ورواتِه معروفون، وأَمْرَه مكشوفٌ، والجَرْحَ فيه مذكورٌ، فأي تخليط هذا؟ ولذا قال سُفْيان الثَّوري: لا تأخذوا الأحاديثَ عن جابر الجُعْفي؛ ثُم روى عنه بنفسه، ولما سُئل عنه قال: إني أَعْرِفُ صِدْقَه من كَذبه. فَدلَّ على أنه لا تخليطَ على الممارِس، لأن الحديثَ عنده يكون معلومًا بمخارِجه ورواتِه وعلِله.
ثم إنَّهم اختلفوا في جابر الجُعْفي، والقول الفَصْل فيه: أنه مُتَّهم في الرأي - أي الاعتقاد - كان يقولُ: إن عليًا في الغَمام، وينزل، ثم ينتقم من أعدائه؛ ولكنه مُعْتمدٌ في حقِّ الرواية، لأنه لم يَثْبُت كَذِبُه في باب الحديثِ أَصْلًا.
وبالجملة السَّلَفُ إنما أخذوا الحديثَ عَمَّن يُوثَقْ بهم، ويُعْتمد على حِفْطهم ودِينهم؛ فلما انتقل الحديثُ من الصُّدور إلى الِّزبْر والأَسْفَار، فحينذٍ لو أخذ عَمَّن رُمي بالكذب لم يَقْدح بشيء، لأن عندك عِلمًا بالاختلاط، والتمييز معًا. فسفيانُ الثوريّ كان يَعْرِف الأحاديثَ، فإِذا أخذها عن جابر مَيِّزَ جَيِّدها عن رديئها، صحِيحَها من سَقِيمها؛ فهذه مرحلة بعد التدوين وبعده.