أما الإِرادة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أراد منكم الصوم" فلأن أذانَ بلال كان في رمضان خاصة، كما مر تقريره. وحينئذ لا تكون إرادة الصوم إلا في رمضان، وإذن لا يكونُ إلا واجبًا، وإنما يبرز في التعبير هكذا، لكونه في اختياره حِسًا لا شرعًا، فالواجبات جملة في خيرته بحسب اللغة والحس، وعليه دار العرف. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} ... إلخ، فجعلها تحت إرادته، بمعنى أن الله تعالى لما جعله مختارًا في أفعاله، خاطبه بما لا يناقض ذلك، فهو نحو إرخاء للعِنان فقط، لا أن إرادة الآخرة موكولة إلى المرء، بمعنى كون الجانبين جائزين له، بل عليه أن يريدَ الآخرة، ولكن تلك لما كانت في اختياره، ومن اختياره، خاطبه كذلك. يقول العبد الضعيف: وقد يخطر بالبال أنَّ الإِرادةَ في الحديث المتنازَع فيه على معنى منع الخلو، فعلى المرءِ أن يريدَ، إما الحج، أو العمرة، فحملُوه على الاختيار في نفس الإِرادة، فكان الاختيارُ بين العبارتين، فجعلوه بين نفسِ العبادة وعدمها، فتلك اعتباراتٌ وملاحظُ تتأتى على المذهبين. أعني أنَّ الجملةَ المذكورة ليست نصًا لهم، كما زعموه، بل تأتي على المذهبين باعتبار المَلْحظين، فصارت المسألة اجتهادية، كلٌّ فيها على خيرٍ وسَعة، بلا ضرب ولا طرد. ويمكن أن يقال: إن القيد اتفاقي، لأن دخولَ الآفاقي عامة لا يكون إلا للحج، أو للعمرة. وسيجيء جواب آخر في: باب دخول الحرم، ومكة بغير إحرام" ألطف من هذا. والله أعلم. (١) قال ابن قُدَامة: أما المجاوزُ للميقاتِ ممن لا يريدُ النّسك، فعلى قسمين: أحدهما: لا يريد دخول مكة، بل يريدُ حاجةً فيما سواها، فهذا لا يلزمه الإِحرام، بلا خلاف. الثاني: من يدخلُ دخولَ الحرم، إما إلى مكة أو غيرها، فهم على ثلاثة أضرب: أحدها: من يدخلها لقتالٍ مباحٍ، أو من خوفٍ، أو لحاجة متكررةٍ، كالحشَّاش، والحطاب، وغيرهما، فهؤلاء لا إحرام عليهم "عيني" ص ٤٩٩ - ج ٤ بغاية تلخيص. قلت: ولم يحسن الكلام في التقسيم، فإنَّ مكة صارت حرامًا إلى الأبد، فلا يحل فيها القتال لأحد.