للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

التسميةَ عند الأكل تُجْزِيءُ عن التسمية عند الذبح، وهذا كمال البلاغة. ومن لا يدري مخاطبات البلغاء، يَقَعُ في الخبط (١).

٦ - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا} [الجمعة: ١١]

٢٠٥٨ - حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ حَدَّثَنِى


(١) قلتُ: وهذا نظيرُ ما رواه أبو داود وغيره، "قالت امرأة: إني امرأةٌ أُطِيلُ ذيلي، وأمشِي في المكان القذر، فقالت أم سَلَمَةَ: يُطَهِّرُه ما بعده". اهـ. فحمله بعضُهم على بيان المسألة، فقيَّدُوه بالنجاسة اليابسة، لأنه هي التي يمكن زوالها بجرِّها على طريقٍ طاهرٍ، ثم ذَكَرُوا فيه تفاصيل، بسطها المُحَشِّي. ويرد عليهم ما أخرجه أبو داود بعده: "فكيف نفعل إذا مُطِرْنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيبُ منها؟ قالت: قلت: بلى، قال: فهذه بهذه". اهـ. فلم يَنْفَعْ تقيدهم باليابس، لِمَا عَلِمْتَ أن الحديثَ وَرَدَ في النجاسة الرطبة أيضًا.
فالوجهُ أنه من باب المحاورات، وردِّ الأوهام على أبلغ وجهٍ، كأنه إنكارٌ على كون ذيلها نجسًا بجرِّها على طريقٍ لم تُشاهِد به نجاسةً، فإنها لم تَذكُرْ نجاسةً مخصوصة تعلقت بذيلها، ولا شاهدتها. ولكنها لمَّا كانت تمرُّ بمكانٍ قذرٍ سَبَقَ إلى ذهنها أن ذيلَها يَقَعُ عليه، ويمكن أن تكونَ النجاسةُ تتعلَّق به. فبسبق هذه اللوازم البعيدة، والتعمُّق الشديد سألت ما سألت. ولو شاهدت نجاسةٌ معلَّقةٌ بذيلها، لَمَا كان لها في نجاسته محل ريب وريبة. وإنما أرادت أن تَستَفْسِرَ عمَّا أقلقها من مشيها على المكان القذر من عدم العلم بالنجاسة المخصوصة. فأجابها: أن ذلك من باب الأوهام، فلا تَعْتَبِر به. وكأن طريقَ التطهير من مثل هذه النجاسات الموهومة الإِغماضُ عنها، وعدمُ الاعتداد بها.
وهذا الذي أراده من قوله: "يُطَهِّرُهُ ما بعده"، لا أنه تطهيرٌ في نفسه، بل المرادُ أنا لو فرضنا تنجُّسه بالمشي، فهذا تطهيره. ومآلُه أنه لا حاجةَ إلى تطهيره بأمرٍ آخرَ، كالغسل وغيره.
وكذلك في قوله: "سَمُّوا الله" ... إلخ. أي ظنُّكم بأنهم لم يُسَمُّوا من باب الوَسَاوِس، وطريق ردِّه أن سموه أنتم، فإن كانت التسميةُ فاتت عنهم، فقد نابت تسميتُكم عنها، فكلُوه الآن. ومآلُه أن لا تتركوه بهذه الأوهام، وكلُوه، فهو من باب سدِّ الأوهام، كما وَرَدَ في الحديث: "أن المرء يُصَلِّي، فلا يزال الشيطان يُوَسوِسُ في صلاته، حتى يقولَ: ما صلَّيت" -بالمعنى-، وحينئذٍ تَنقَطِعُ عنه الوساوس.
وهو أحدُ الوجوه في قوله: "إن الماءَ طهور لا ينجِّسُه شيء"، فإنهم لمَّا زعَمُوا أن الحيطان لم تغسل وطينها لم يَخرُجُ، تمكن في صدورهم نجاسته، فردَّه عليهم: "أن الماء طهور لا ينجِّسُه شيء" أي شيء من نحو ما زَعَمتم من الأوهام. ويُمْكِن حمل قوله: "إذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَيْن" ... إلخ، على هذا المعنى. أمَّا التقييدُ بالقُلَّتين، فلكونه مقدارًا معتدًّا به، لا تَظهَرُ فيه أثرُ النجاسة. وظن التنجُّس في مثله من باب الأوهام، إلا أن يُشَاهِدَ نجاسته. ومن هذا القبيل قوله: "حتى يَجِدَ ريحًا، أو يَسْمَعَ صوتًا"، كما مرَّ آنفًا. وحوله يَحُوم قوله: "إن الماء لا يُجنِبُ"، أخرجه الترمذي في "الطهارة"، وقوله: "إن حَيضَتَكِ ليست في يدك"، عنده. وأمثال ذلك غير قليل.
وحاصل المقال: إن الحديثَ يَرِدُ على نحو تعبيرٍ، ومخاطبةٍ على العُرفٍ، فَيَحْمِلُهُ الناسُ على بيان مسألةٍ، ويأخذون بالألفاظ، فيقعون في الأَغلاط. وقد مرَّ منا نظائره فيما سبق، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الذي لا يُصَلِّي صلاةَ الليل، خيرٌ من الذي يُصَلِّي، ثم يتركها"، -بالمعنى- وقوله: "لا تَدْعُوا على أمرائكم، فإنكم كما تكونون يُؤَمَّرُ عليكم"، وقوله: "مثلُ أمتي كمثل المطر، لا يُدْرَى أولهم خيرًا أم آخرهم"، وغير ذلك، لو عدَّدنا جملته لأفضى الكلام إلى طويلٍ. وفي ذلك كفايةٌ للبيب. وهذا كلُّه سمعته من شيخي متفرِّقًا، فجمعته في موضعٍ واحدٍ، حسب ما وَسِعَ الوقت، ولم أَبسُطْهَا كلَّ البسط. فافهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>