أجاب ربَّا دعاه، أو لبَّى داعي الأجل، أو هلك، أو مات، أو توفِّي، إلى غير ذلك من العنوانات، يريدُ بتلك العنوانات معاني خاصة. والتركُ لعنوانه المختار، والنزول إلى الغرض، لا يكون إلا من الجاهل، فإنه إخلالٌ لمراده. أَلا ترى أن في قوله: أجاب ربًا دعاه من التشريف ما ليس في قوله: هَلَكَ. فترجمتُه بالهلاك إعدامٌ، وإفسادٌ للمعنى المراد، وهذا هو الفرق بين البليغ والسوقيِّ.
وهذا معنى ما قاله أبو البقاء في «كلياته»: التوفِّي الموتُ، وعليه استعمالُ العامة، وأخذُ الشيء وافيًا، وعليه استعمال الخاصة. أراد بذلك أن السوقيَّ لا يُبَالي بالفروق الدقيقة، ولا يُرَاعي المعاني المقصودة، بل يَنْزِلُ إلى الغرض، فَيُنْزِلُ الكلامَ من الأوج إلى الحضيض. أما البليغُ، فينظر في الفروق، ويَعْبُرُ العنوانات، ويُرَاعي المعاني المقصودة، ويَحْمِلُ الكلامَ على ما سُبِكَ له.
وهذا الأمرُ أهمُّ في القرآن، لبلوغه من البلاغة الذروة العليا، فإنه يُؤَدِّي الحقائقَ الغامضةَ في ضمن الألفاظِ المُوجَزَةِ، كما رَأَيْتَ أنه نبَّه على حقيقة الموت من لفظ التوفِّي. وكذلك في كل موضعٍ يكون فيه لفظٌ من القرآن، تكون فيه حقيقةٌ مقصودةٌ لا تتأدَّى إلا به، فإذا بُدِّل ووُضِعَ مكانه آخر، فَسَدَ المعنى، وهذا أحدُ وجوه الإِعجاز في القرآن عندي. والعلماء ذَكَرُوا إعجازه في الكلام المُرَكَّب، وادَّعَيْتُ إعجازه في المفردات أيضًا، ولقد أَدْرَكْتُهُ أو بعضَه، ولا أقول ذلك إلا بعد الذَّوْق والوجدان، لا بِحَسَبِ الاعتقاد والتقليد فقط.
ولذا أقول: إن ترجمة قوله: {مُتَوَفِّيكَ}[آل عمران: ٥٥] مميتك، لا يَلِيقُ بمرامي القرآن، فإنه تَرَكَ لفظ الموت قَصْدًا. ألا ترى أن اليهودَ كانوا بصدد قتله، وكانوا يُهَدِّدُونه به، فهل يُنَاسِبُه التبشير بالتوفِّي أو الإِنذار بالموت. ورَحِمَ الله الزمخشريَّ حيث كان أعلم الرجال بهذا الموضوع، ففسَّره بقوله: مُسْتَوْفي أجلك. ومعناه: إني عَاصِمُكَ من أن يَقْتُلَكَ الكفار، ومُؤَخِّرُك إلى أجلٍ كتبته لك، ومُمِيتُكَ حَتْفَ أنفك، لا قتلا بأيديهم. اهـ.
فأخذه أولا بمعنى استيفاء، ثم فصَّل ما تضمَّنه لفظ التوفِّي، وجعل الموتَ حَتْفَ أنفه من مراميه. يعني به: أن التوفِّي تبشيرٌ من عصمته بالقتل، وإيذانٌ بأن الموتَ متى ما يأتي عليه يأتي من جهته تعالى، لا من أيدي هؤلاء الملاعنة. ثم قال الزمخشريُّ: وقيل: يُمِيتُكَ في وقتك بعد النزول. فانظر كيف جعل معنى الموت مقابلا لمعنى استيفاء الأجل، مع أنه قد دَرَجَ فيه الموتَ بنفسه من قبل، وذلك لأنه أبقى اللفظَ على مدلوله، وهو استيفاءُ الأجل. ثم لفُّ الموت والرفع، وغير ذلك في مرتبة الغرض.
فالحاصل: أنه سلَّم الموتَ في مرتبة الغرض، ومرضَه في مرتبة المدلول. ثم قوله:«معناه» على حدِّ قولنا: «وحاصل الكلام». ولفظ الغرض أيضًا ليس بجيدٍ، فاحفظه. وإن عَجِزْت أن تَفْهَمَهُ، فلك العذرُ فإن صيدَ الظباء ليس بهيِّنٍ.
٢٠٥٧ - قوله:(سَمُّوا الله عَلَيْهِ وكُلُوْه)، ومرادُه: أن احملُوا حالهم على ما يَلِيقُ بالمسلمين، وأَحْسِنُوا الظنَّ بهم، وأتُوا أنتم بما هو سُنَّةٌ لكم، وهو التسميةُ عند الأكل. لا أن