مقتضيات الأحوال، لأن السلف أرادوا الردَّ على المرجئةِ الآخذين من الإيمان التصديق فقط، والقائلين بأنه لا يضرُ مع الإيمان معصية. فكأنهم حطُّوا الأعمال عن مرتبها، وعطَّلُوها؛ وجعلوها كالمطروح في البين، وهذا جهل عظيم فردّ السلفُ عليهم واهتموا بذكر الأعمال، حتى أوْهَم بجزئيتها وانتفاء الإيمان بانتهائها.
فقالوا: إن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فله تعلقٌ عظيمٌ مع الأعمال، حتى إن ازديَادَها مؤثر في زيادته، ونقصَانها في نقصانه، فأين هؤلاء من الإيمان؟ فكأنهم أرادوا بهذا القول أن لا يتهاون الناس في أمر الأعمال، ولذا تواتروا بذلك القول، وتتابعوا عليه، حتى صارَ علمًا لأهل السنة والجماعة عندهم. ومن خالفهم في هذا القول رَمَوه بالإرجاء وغيره، لأنهم ابتلوا بهم، فمن خالفهم ولو في التعبير، أدخلوه في زمرتهم وحزبِهم، وزعَمُوه معينًا ونصيرًا لهم.
ثم جاء إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى ورأى في زمنه فتنة الاعتزال والخروج، وكانوا يقولون: إن مرتكب الكبير مخلد في النار، فأراد الردَّ على هؤلاء المتوغلينَ في أمرِ الإيمان والمعطين الأعمال ما ليس لها بحق، فلو قال: في مقابلتهم أيضًا كما قال السلف لكان إعانة لهم فغير عنوانهم، فقال: إن الإيمانَ لا يزيد ولا ينقص، فالأعمال ليس كما قلتم، بل هي وإن كانت أهم في نفسها، إلا أن أمرَ الإيمان أيضًا ليس بهينٍ، فهو أيضًا أمرٌ مستقلٌ وليس بتابع، بل أصلٌ وعليه يدور أمر النجاة. فلو لم يعمل أحدٌ طولَ عمره، وكان آخرُ كلامِهِ: لا إله إلا الله، دخل الجنة، لا كما قلتم: إن الرجل لو آمن وصدق أي تصديق، ثم صدرت عنه كبيرة لا يغفر له فجعل الأعمال كالمطروح في العبارة فقط، دون الحقيقة ليظهرَ استقلالُ الإيمان وتماميته بدونها، فأراد أن يكشفَ عن حقيقةِ الحال لئلا ينخدع أحدٌ من عبارة السلف، فيجعل الأعمال داخلة في الإيمان، مع أنها كانت دخيلة، فينفي النجاة بترك الأعمال (١).
تتمَّةٌ في بَحْثِ الزِّيَادةِ والنُّقْصَان
وليعلم أن القرآن لا يدل بمنطوقه إلا على زيادة الإيمان، أما على نقصانه فلا، إلا أن يؤخذ عنه باللزوم، ويقال: إن الإيمان إذا ثبتت فيه الزيادة أمكن فيه النقصان أيضًا. وعند أبي داود حديث في كتاب الفرائض، عن معاذ رضي الله تعالى عنه مرفوعًا: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الإسلام يزيدُ ولا يَنقْصُ». واستدل منه معاذ رضي الله تعالى عنه في قصة التوريث ونحوه. روى
(١) قلت: وآخر ما رأيت شيخي رحمه الله تعالى يقرر محصل الاختلاف بعبارة أخرى، وهي أوضح. قال في رسالته: "اكفار الملحدين" ما حاصله: من قال: قولٌ وعملٌ يزيدُ وينقص أي بالطاعة والمعصية. أراد أنه لا بد هناك من الفرق بين المؤمن الكاملِ والعاصي، فمن زاد طاعة زاد إيمانًا، أي يكون مؤمنًا كاملًا، ومن نَقَصَ طاعة نقص إيمانًا أيضًا، ولا يكون في مرتبته، أي يكون مؤمنًا ناقصًا. فهذا الذي أراده السلف ومن قال: إن الإيمان لا يزيدُ ولا ينقصُ، أراد أن الإيمان لا يتبعض، بل يكون بمجموع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، بحيث لا لا يشُذ عنه شاذ، ثم جاء المشغوفون بالخلاف، فحملوا عبارة كلٍ فوق ما أرادوا، من التشكيك في نفس الاعتقاد أو الإرجاء.