تحقيقٌ في قِصَّة رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بالحُدَيْبِية
واعلم أن الشقيِّ لَعِن القاديان المتنبيء الكاذب، زعم أن أخبارَ الأنبياءَ عليه السلام أيضًا قد لا تطابِقُ الواقع؛ وذلك من دأبه في سائر المواضع، أنه إذا أُوْرِد عليه شيءٌ، صلى الله عليه وسلّم م يلهِمْه شيطانُه الجوابَ عنه، جعل يَعْزُوه إلى الأنبياء الحقِّ، ويقول: إنَّ أخبارَهم أيضًا قد تخالِفُ الواقع، كما أن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم رأي رؤيا أنه يَعْتمِر من تلك السنة، فارتحل لذلك، فإِذا أنه قَدْ أُحْصِر، ولم يَتَيَسَّر له ما كان قَصَد إليه.
قلت: كَذَب عَدُو اللهِ، والله العظيم، لم تكذب أخبارُ الأنبياء عليهم السلام قط، ولا كان لها أن تكذب، وأين هو من أخبارهم؟ وإنما يَقِيس ما تَحْتَطِفُه الشياطين، ثُم تقرقرِه إليه بما ينزل محفوظًا عن جوانبه، محفوظًا عن أطرافه بالملائكة، قال تعالى:{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}[الجن: ٢٧] أما تمسّكه بِقصَّة الحديبية، فَمَبني على غاية شقاوته، ونهايةِ سفاهته، وقِلَّة عِلْمه، وفَرْط جهله. ومَنْ أخبره على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم رأى تلك الرؤيا في المدينة، بل ما في النُّقول الصحيحةِ عن مجاهد، وغيره، كما في «الدُّر المنثور»: أت النبيَّ صلى الله عليه وسلّم رأى رؤيا بعد ما بلغ الخُدَيبية، وهو الذي يَشهد به الوجدانُ، لأنه لما سافر من المدينة عازِمًا بالعمرةِ، ثم أحْصِر، وبلغ أصحابُه من الهمِّ والكَرْب ما بلغهم، حتى أنهم ما كادوا ليحلُّون من إحرامهم، مع أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يأمرُهم بذلك، فلما حلَق النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، وشاهدوهم بأعينهم، فتسارعوا إلى الحلق، حتى كاد يَقْتل بعضُهم بعضًا، مِن سرعة الحَلْق، وحينئذ رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم رؤياه ليسكن جأشهم، وتطمئنَّ قُلُوبهم، فهذا هو الذي كان مِن أَمْر رؤياه.
أما ما رواه الواقدي، فلا يُعْلم إلا مِن جهتِه، وهو غيرُ ناقدٍ في النَّقْل، ويَجْمَعُ بين كل رَطْب ويابس، كحاطِبِ ليلٍ، ومع ذلك ليس بكاذبٍ في نفسه، ولو سَلَّمناه فليس فيما نقله أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ارتحل لتلك الرؤيا، بل هذا ما نحو ما يقومُ الأنبياءُ عليهم السلام لقضاءِ أَمْر، ثُم قد تَحُولُ المشيئةُ بينهم، وبين مُتَمنَّاهم؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد يرجو الغَلَبةَ عليهم، فلم يُقَدَّر له، وظَهَرَ أَمْرُ الله، فالذي يَقْدَح في باب النبوة أن يُخْبِرَ النبيُّ بأَمْرٍ، ثم لا يقع كما أخبر به؛ أما تَخَلُّفُ المرادِ عن إرادتِهم فليس بقادِحٍ أصلا، بل وقع مما لا يُحْصى؛ وذلك لأن الرجاءَ والقصد يعتمدانِ على الأسباب الظاهرة، بخلاف الإِخْبار بالغيب، فإِنها تَنْبَعُ من عِلْم الله العليم، فلو ظهرَ فيها الخلافُ لا نهدم الأساس.
ثُم الذي يحصُل به ثَلْجُ الصَّدْر لو كان فيه قَلْب لحم، أن هذه الواقعة من باب المسارعةِ إلى أَمْر خير، كَفِعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام في رؤياه، حيث لم يصبر بعدها، إلا أن دعاه وَلده، وتلَّة للجبينِ، ولا يقول هناك أَحَدٌ: إنه لم تَصْدُق رؤياه، لأنه ذبح الكَبْش، وقد كان رأى في المنام أنه ذَبَح ابنه، وذلك لأنه بَعْد رؤياه لم ينتظر لشيء، غيرَ أنه بادَر إلى إجرائها على ظاهِرها، فأظهره الله تعالى أن الابتلاءَ قد تمَّ بهذا القَدْر، وحَسْب إمرارُ المُدْية عن ذَبْحه فَحَسْب، فلو فَرضنا أن تلك الرؤيا كانت بالمدينة، وفرضنا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بعث للعُمرة لأَجْل تلك الرؤيا، فلا دليلَ فيه، على نه كان في ذِهْنه أَنه يَعْتَمر في تلك السَّنةِ، تأويلا لرؤياه، بل كان من