وقد مرَّ الكلامُ فيه. وأن التحقيقَ فيه عندي أن المؤثِّرَ عندي هو تناسبُ الأمرين، فإذا كان الأمران متناسبين يُعْتَبَرُ تعليقُهما، ويؤثِّر لا مَحَالَةَ. وإن كانا غيرَ ملائمين يَلْغُو. كما إذا قال للأجنبية: إن دخلتِ الدَّارَ فأنتِ طالقٌ، فإنَّه لا ملاءمةَ بين دخول الأجنبية والطلاق، فلا يُعْتَبَرُ أصلًا، بخلاف ما إذا أضافه إلى النكاح.
قوله:(وفي المَعْصِيَةِ، في الغَضَبِ) واعلم أنَّ اليمينَ في المعصيةِ ينبغي أن لا يَنْعَقِدَ (١) عن أئمتنا الثلاثة، على ما هو المحرَّر عندي، لأنَّ لصحة النَّذْر شرائطَ: منها أن يكونَ من جنسه واجبًا، فلا تنعقد في المعصية. فإِذا لم تنعقد في المعصية، ينبغي أن لا تجب فيها الكفَّارةُ أيضًا، على ما هو المشهورُ من شرائطها في كُتُبِ الحنفية. إلَّا أن الشيخَ ابن الهُمَام نَقَلَ عن الطحاويِّ أنَّ فيه الكفَّارةَ، وإن لَزِمَهُ الحِنْثُ. وكذا وضع محمدٌ بابًا في «موطأه»، وصرَّح فيه أن من نَذَرَ بذبح ولده، عليه أن يَحْنَثَ، ويَذْبَحَ شاةً. فلا أدري أنَّ هذا هو مختارُهما فقط، أو تعدَّدت الرواياتُ عن صاحب المذهب.
ثم إنَّ مسألةَ النَّذْرِ قريبٌ من مسألة اليمين. وذهب أحمدُ في النَّذْرِ بالمعصية أنَّه ينعقدُ، ويجب عليه الحِنْثُ والكفَّارةُ. وتمسَّك بما عند الترمذيِّ:«لا نَذْرَ في معصيةٍ، وكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ». ومحملُه عند الحنفية عندي: أنَّ الضميرَ فيه يَرْجِعُ إلى مطلق النَّذْرِ دون النَّذْرِ في المعصية بخصوصه.
هذا في النَّذْرِ، أمَّا في اليمين، فاتفقوا على أن الحِنْثَ فيه واجبٌ.
وَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ،
(١) قال الخطابيُّ: قال أبو حنيفة، وأصحابُه، وسفيانُ الثوريِّ: إذا نَذَرَ في معصيةٍ، فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، واحتجَّوا في ذلك بحديث الزهريِّ، عن عائشةَ مرفوعًا، قال: "لا نَذْرَ في معصيةٍ، وكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ" قال الخطابيُّ: لو صَحَّ هذا الحديث، لكان القولُ به واجبًا، والمصير إليه لازمًا. ثم بَسَطَ الكلامَ فيما يتعلَّق بإِسناده، فراجعه من "معالم السنن" ص ٥٤ - ج ٤ وذكر ابنُ رُشْدٍ نحوه عن ابن عبد البَرِّ في "بداية المجتهد": ص ٣٦٢ - ج ١ وتصدَّى إلى تحسينه العلَّامةُ المَردِينيّ في "الجوهر النقي". وقد ذكر له الشيخُ في تقرير الترمذيِّ أشياءٌ لا بُدَّ من النظر إليها، فراجع "العرف الشذي"، ولا تَطْمَعْ في العلم براحة الجسم.