أَنَّك قد عَلِمْتَ أَنَّ صَلاةَ الجماعة صلاة واحدة بالعددِ في نظرِ الشَّرْع؛ والإِمام يُناجي فيها فلا تَخْلُو عن المُنَاجَاة على طَوْرِنا أيضًا.
ثُمَّ لو أَخَذْنا المناجاةَ مِنْ كل فليست هي إلا في السِّرية وأمَّا في الجَهْرِية فهي مُنَازَعة لا مناجَاة، ومخالَفة لأمرِ الإِنصات والاستماعِ؛ لا مبادرة إِلى الامتِثَال، ولم أَرَ في نَقْلٍ عن الإِمام أَنَّ القِرَاءةَ في السِّرِية لا تجوز، أَمَّا في الجهرية فأمرُها كما صرَّح به النَّص.
٥٣١ - قوله:(فلا يَتْفِلَنَّ) وقد حققتُ مناطَه أَنَّه كان المُصلِّي على سَمْتٍ حسن، ولذا نَهَى عن إِقْعَاءِ الكَلْبِ، وافْتِرَاشِ الثَّعْلَب، ونَقْرِ الغراب، وبُروك الجَمَل، وأَنْ يَخْفِضَ رَأْسَهُ في الرُّكوعِ كالحمارِ، كلُّ ذلك لأجلِ كونِه على هيئاتٍ حسنة بين يدي رَبِّه، فالبُزَاق في اليمين وإنْ كان منها من أجل الملك لكن رعايته أيضًا لكون المُصَلِّي بين يدي ربِّه في هذا الحين، أَمَّا البُزَّاق أمامَهُ فهو أَشَدُّ وأشد وأَقْبحُ وأقبح.
ثُمَّ إنَّ سِيَاق الحديث - «مَنْ تَفَل أَمَامَهُ في الصَّلاةِ جاء يومَ القيامةِ وتفلُه بين عينَيْهِ» أو كما قال - ليس عندي كسياق:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: ١٢]. لأنَّ الحديثَ إنَّما سِيق بيانًا للجزَاءِ مِنْ جنس العمل، بخلاف الآية.
قوله:(اعتدِلوا) وَفَسَّرَهُ ابنُ دقيق العيد برفع العَجِيزة، ومجافاةِ العَضُدَينِ عَنِ الجنْبَين؛ ولم أَزَل أَتَفَكَّر في تفسيره، لأنَّ غايةَ ما يدلُّ عليه لفظُ الاعتدال، هو التعديل على خِلافِ نَقْرِ الدِّيك حتى رأيتُ كلامَ ابنِ العربي في العارضة (١) فتبين منه المرادُ. وحاصله: أَنَّ الاعتدالَ لبيانِ الهيئةِ المتوسِطَّةِ بين القَبْضِ والبَسطِ، فلا يَبْسط في السجودِ بحيث يشبه بالمُسْتَلقى على وجهه، ولا يَقْبِضُ أعضاءَهُ حتى يصير كالعضوِ الواحد، ولا يَحْصُل لكل عضوٍ حظُّه مِنَ السجودِ مع ما في الحديثِ: أنَّ ابنَ آدمَ يَسْجُد على سبعةِ آراب، ولا يَتَيسر هذا إلا في الهيئةِ المسنُونَةِ فتفسيره به بهذا الطَّريق لا أَنَّه مدلولُ اللفظ. ثُمَّ إِنَّ التعديلَ المعروف أيضًا يدخُل في عمومِهِ.
٩ - باب الإِبْرَادِ بِالظُّهْرِ فِى شِدَّةِ الْحَرِّ
(١) قال أبو بكر بنُ العربي في "شرح الترمذي": معنى قوله: اعتدلوا، أراد به كون السجودِ عدلًا باستواءِ الاعتمادِ على الرِّجْلَين والرُّكْبَتَين واليَدَين والوجه، ولا يأخذُ عضوٌ من الاعتدالِ أكثر مِنَ الآخر وبهذا يكونُ ممتثِلًا لقوله: "أمرتُ بالسجودِ على سبعةِ أعْظُمٍ" وإذا فَرَشَ ذِرَاعَيهِ فَرْشَ الكلبِ، كان الاعتمادُ عليها دون الوجهِ، فيسقُط فرضُ الوجه، ولهذا روى أبو عيسى بعدَهُ في بابِ حديث أبي هريرة: اشتكى أصحابُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مشقّةَ السجودِ إذا انفرجوا، فقال: استعينوا بالرُّكَب، معناه يَكْفِيكُم الاعتماد عليها راحة. وفي سُنَنِ أبي داود نهى عن نُقْرَةِ الغُراب، وافتراشِ السَّبُع اهـ.