وأمَّا الإِمكانُ بالذات مع الامتناع بالغير، فقد أَحْدَثَهُ ابنُ سينا، وكان التقسيمُ عند قدمائهم ثُنَائِيًّا، ممكِنًا، أو ممتنعًا. فالممكِنُ ما يوجدُ مرَّةً، ويَنْعَدِمُ أخرى. وما لا يَخْرُجُ من حَيِّز العدم إلى بقعة الوجود لا يُسَمَّى عندهم ممكنًا. فإنَّ المبحوثَ عنه عندهم كانت المراتبَ الخارجيةَ، والإِمكانُ بالذات مع الامتناع بالغير مرتبةٌ عقليةٌ. فإنَّ الممكنَ إذا صار ممتنعًا بالنظر إلى الغير، فقد تَسَاوَقَ الممتنعُ بالذات في عدم خروجه إلى الوجود، وإن كان يفارقه في النظر العقليِّ. ثم إنَّ هذا الغيرَ إن اعتبرته في ذات الشيءِ فذاك أيضًا يعودُ إلى الامتناع الذاتيِّ. نعم لو اعتبرته خارجةً، خرج قسمٌ ثالث.
وبالجملة: هذا القسمُ من مخترعات ابن سينا، ثم إنَّ العبدَ عند أهل السُّنة مختارٌ، وإن كان مجبورًا في وصف الاختيار، فإنه مودَعٌ فيه، كالماء في القُمْقُمَة، فعاد مجبورًا من وجهٍ أيضًا، وذلك هو الجبرُ مع الاختيار.
بقي الاختيار المستقلُّ، بحيث لا يكون مستندًا إلى قادرٍ، فهو مُحَالٌ في حقِّه، فإنَّ وجودَه نفسَه ليس له حقيقةٌ وتقوُّمٌ، إلَّا بعد اعتبار حيثية الاستناد، فكيف بصفاته؟ ولي فيه نظمٌ طويلٌ، قد ذكرتُ بعضَه سابقًا.
٢ - باب جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ
وقَوْلُهُ:{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}[الجاثية: ٢٣]. وَقالَ أَبُو هُرَيرَةَ: قالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «جَفَّ القَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ». قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون: ٦١] سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ.