واعلم أنَّ أَوَّل مَنْ خدم القرآن أئمةُ النَّحْو. فللفرَّاء تفسير «في معاني القرآن»، وكذا للزَّجَّاج. وذكر الذَّهبي أنَّ الفرَّاء كان حافِظَ الحديث أيضًا. وقد أَخَذَ ابنُ جرير الطبري في تَفْسيره عن أئمة النَّحْو كثيرًا، ولذا جاء تفسيرُه عدِيمَ النَّظير، ولو كان البخاريُّ أيضًا سار سَيْرَه لكان أحسنَ، لكنه كان عنده «مجازُ القرآن» لأبي عُبَيدة مَعْمَر بن المُثنَّى، فأخذ منه تفسيرَ المُفْردات، وذلك أيضًا بدون ترتيب وتهذيب، فصار كتابُه أيضًا على وَازِن كتاب أبي عبيدةَ في سُوء الترتيب، والرِّكَّة، والإِتيان بالأقوال المرجوحة، والانتقال من مادةٍ إلى مادة، ومن سورةٍ إلى سورة، فصَعُب على الطالبين فَهْمُه. ومَنْ لا يدري حقيقةَ الحالَ يَظُنَّ أن المصنِّف أتى بها إشارةً إلى اختياره تلك الأقوالَ المرجوحةَ، مع أنه رَتَّب كتابَ التفسير كلَّه من كلام أبي عُبيدة، ولم يعرِّج إلى النَّقْد أَصلًا. وهذا الذي عرّا شقي القاديان، حيث زَعم أنَّ البخاري أشار في تَفْسِيره إلى أنَّ التَّوَفِّي بمعنى الموت، لأنه فَسَّر قوله تعالى:{مُتَوَفِّيكَ}[آل عمران: ٥٥] بِممِيتك؛ وهذا الآخَرُ لم يوفَّق، ليفهم أنَّ الحال ليس كما زَعمه، ولكنه كان في «مجاز القرآن»، فنقله بعينه كسائر التفسير، فإِنْ كان ذلك مختارًا، كان لأبي عُبيدة لا للمصنِّف. وتفسيرُ الحاكم في «مستدَركِه» أحسنُ منه عندي. ثُم إنَّ هذا غيرُ أبي عُبيد صاحب كتاب «الأموال»، فإِنَّه متقدِّم على مَعْمَر بنِ المُثنَّى، وهو أبو عُبيد قاسم بن سَلَّام من تلامذةِ محمد بن الحسن، أَوَّل مَنْ صَنَّف في غريب الحديث.
ثُم إنَّ المجاز في مصطلح القدماء ليس هو المجازَ المعروف عندنا، بل هو عبارةٌ عن موارد استعمالاتِ اللفظ، ومن ههنا سَمَّى أبو عبيدة تفسيره «بمجاز القرآن». وهذا الذي يريدُه الزَّمخشرِي من قوله: ومِن المجاز كذا، كما في «الأَساس»، ومن المجاز تُوفي زَيْدُ، أي مات، لا يريدُ به المجاز المعروف، بل كَوْن الموت من موارد استعمالاته. وقد حَقَّقْنا من قَبْل أن التوفِّي كنايةٌ في الموت، وليس بمجاز. وهكذا التأويلُ عند السَّلَف بيان المصداق، قال تعالى:{هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ}[يوسف: ١٠٠] أي مِصْدَاقُها، وقوله تعالى:{وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}[يونس: ٣٩] أي مصداقه، وهو عند المتأخرين بمعنى صَرْف الكلام عن الظاهر.