والظاهرُ حَجْرُ إطلاق النفس على ذاته تعالى، لأنَّه من التنفُّس. إلَّا أن المصنِّفَ جوَّزه، نظرًا إلى ورود الشرع به، فيكون مبنيًّا على الانسلاخ.
٧٤٠٥ - قوله:(أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي) وآخرُ ما وَضَحَ لي في مراده: أنَّ كلَّ أحدٍ يُحِبُّ صاحبًا يكون معه ليَسْكُنَ إليه، ويطمئنَ به، فذلك من خاصَّة الذكر. فَمَنْ ذَكَرَ الله تعالى يَجِد الله تعالى جليسه، وعنده يطمئنُّ بذكره قلبه، ويَنْشَرِحُ به صدره، قال تعالى:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد: ٢٨]. وهكذا وَرَدَ في لفظٍ:«أنا معه إذا ذَكَرَني»، فمعيته تعالى هي من خاصة ذكره جلَّ مجده. فإنَّ الإِنسانَ يَشْمَئِزُّ من الوحدة والانفراد، ويَحْرِصُ على أن يكونَ معه آخر يَسْتَأْنِسُ به. فمن ذَكَرَ اللَّهَ تعالى، فإنَّه يجده عنده ومعه يَسْتَأْنِسُ به، ويَسْتَلِذُّ بقربه. كيف لا وهو الرفيقُ الأعلى.
وحينئذٍ ظَهَرَ معنى الفاء في قوله:«فإن ذكرني في نفسه» ... إلخ. وهل أَدْرَكْتَ معنى قوله:«في نفسي؟»، ولعلَّك ما ذُقْتَهُ. فاعلم أنه مقابلٌ لقوله:«فإن ذكرني في ملأ». ومعلومٌ أن التكلُّمَ يَستدعي أن يكونَ هناك أحدٌ يَسْمَعُ كلامه ليخاطبه، وإذا لم يَكُنْ هناك أحدٌ، لا بُدَّ إلى قيدٍ في النفس، أو يَحْذُوَ حَذْوَهُ. فإذا قلتَ: تكلَّمتُ في نفسي، يكون معقولًا ولو لم يَكُنْ هناك أحدٌ. فلو لم يَكُنْ هناك أحدٌ يَسْمَعُ كلامك، وقلتَ: تكلَّمْتُ - بدون قيدٍ - لم يعقَّل المعنى. وههنا لمَّا كان الذكرُ في النفس مقابلًا لذكره في ملأٍ، قيَّده به ليعقل الذكر بدون ملأٍ. فافهم، ولا تَعْجَل، فَرُبَّ عَجَلَةٍ تُفْضِي إلى عَثُرَةٍ.
ثم إنه لا دليلَ فيه على فضل الذكر السريِّ على الجهريِّ، والذي فيه: أن الجزاءَ من جنس عمله، فَجُوزِيَ كما عَمِلَ. فإذا ذَكَرَهُ في ملأٍ يُذْكَرُ في ملأٍ، لأن هذا جزاءه من جنس عمله. وإذا ذَكَرَ خاليًا، يُذْكَرُ كذلك لكون ذلك جزاءه، لا لأنَّه أفضل أو مفضول.