توجه المصنِّف رحمه الله تعالى إلى مسألةِ الأوقاتِ المكروهةِ، وَقَدْ وَقَعَ فيها انتشار كثير، ووجهُه: أنَّ الأحاديثَ تَنهَى عن الصَّلاة في تلك الأوقات، ثُمَّ تَرِدُ أحاديث أخرى بجوازِ الصَّلاةِ فيها، وقد تَنْسَحِب بعمومِها على تلك الأوقاتِ فَيَحْدُثُ التجاذب بين العمومين، فمنهم مَنْ يَتَحرى أحاديث النَّهي على عمومِها ويخصص بها أحاديث الجواز ومنهم مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الشريعةَ إذا وَرَدَتْ بالصَّلاة في تلك الأوقاتِ بعينها، فما لنا ألا نخصصها من تلك العموماتِ، كما في الرَّكعتين بعد العصر، فعموم قوله:«لا صلاة بعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس» يُوجِبُ نفيها، وخصوصُ ثبوت هاتين الرَّكعتين يُوجِب تخصيصهما عن هذا العموم. فهذا هو سِرُّ الخلافِ بين الأئمة رحمهم الله تعالى (١).
واعلم أَنَّ الأوقات المكروهة عندنا خمسة:
الطلوع، والغروب، والاستواء. وهذه الثلاثة لا تجوز فيها الصَّلاةُ مطلقًا، لا صَلاة جنازة، ولا سجدة تلاوة إلا عصر يومه، وأمَّا بعد الفجرِ حتى تَطْلُع الشمس، وبعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس، فيكره فيهما التَّنفُّل، ولا بأس بأن يُصلَّى في هذين الفوائت وسجدةَ التلاوة، والصَّلاةَ على الجنازة. وإنَّما فَرَّقنا بين حكمها لوضوحِ معنى الكَرَاهة، فإِنَّها في الثلاثة الأول لمعنى في الوقتِ وهو مقارنةُ الشيطان، فاستوى فيها الفرائض وغيرها، وأمَّا في الأخيرين فقد ظَهَرَ أَنْ لا كَرَاهة في الوقتِ، ألا تَرَى أَنَّه لو نَوَى فَرْضَ الوقتِ فيهما، أو شَغَلَهُ بالإِطالة جاز. فالكراهةُ لحقُ الفَرْضِ لا لأَجْلِ الوقْتِ، ولو كانت للوقْتِ لَمَا جازَ تأخيرُ الفَجْرِ والعصر إلى آخر وقتها، وَلَمَا وَرَدَ النهيُ بعد ما قبلها علمنا أَنَّ الكراهةَ فيهما لمعنى في غير الوقت، وهو حقُّ الفَرْضِ ليصير الوقتُ المشغول به فلم تَظْهَر في حق سائرِ الفرائض، وما في معناها وهي الواجبات بعينها كسجدةِ التِّلاوةِ بخلافِ رَكْعَتيِ الطَّوافِ لأنَّ وجوبَها لغيرِه، وقد تَعَسَّرَ الفَرْقُ على شارحي الهداية بين سجدةِ التِّلاوة، وركعتي الطواف، فراجعه وحرره.
والحاصل: أَنَّ الحنفيةَ قالوا بكراهةِ تلك الأوقاتِ كلِّها لأجلِ قيامِ الدَّليل. واعترض عليه الشيخ ابن الهُمَام: أَنَّ النَّهْيَ في هذين الوقْتَيْن أيضًا مطلقٌ كما في الثلاثةِ المذكورةِ، وتخصيصُ النَّص بالرأي لا يجوزُ ابتداءً.
(١) قلت: وقد بسطه ابن رشد في "بداية المجتهد" أحسن بسط فراجعه.