للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أقول: أمَّا مسألةُ التَّخْصِيص بالرأي فهي ما ذَكَرَهُ الشيخ وإنْ كان عَملُهم بخلافها، فإِنَّهم يُخصِّصُونَ الأحاديثَ في الأخلاقِ والمعاملات بالرأي بلا تساؤل؛ نعم، يتأخرون عن تَخْصِيصِ أحاديث العباداتِ، وذلك لانجلاء الوجُوهِ في الطائفة الأولى وخفائِها في الثانية، وقد صرَّح ابنُ دقيق العيد أَنَّ الوجه إذا كان جليًا جازَ التخصيصُ بالرأي بلا نَكير على أنَّه ليس تَخْصِيصًا ابتداءً، بل خَصَّصَ منه الوتْرَ، فعند الدَّارَقُطْني: «من فاتَ عنهُ وِتْرُهُ فليصلِّها بعد الصُّبح - بالمعنى - وصَحَّحهُ العراقي في «شرح الترمذي» وهو عند أبي داود أيضًا إلا أَنَّ لفظَهُ: «فليصَلِّها إذا ذَكَرَها». وعند الترمذي «فليصلها إذا أصبح». وهو مرسلٌ قوي الإِسناد، وعنده مرفوعًا أيضًا إلا أَنَّ فيه عبد الرحمن بن زيد بن أَسْلَم، وهو ضعيفٌ.

والحاصل: أنَّ النَّهيَ وإنْ ورد في كلِّها إلا أنَّ الإِمامَ فَرَّقَ بين حكمها لمَّا رأى من اختلافِ شاكلة الشريعة فيها، فإِنَّها عَلَّقتِ النَّهي في هذين على الفجرِ والعصر، فدَلَّ على أنَّه ليس فيهما ما يُوجِبُ نُقْصَانَ الوقت، ثم ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلّم الرَّكعتين بعد العصر أيضًا، فَدَلَّ على أَنَّ فيهما صلُوحًا وتوسعًا، بخلافِ تلك الثلاثة؛ وأمَّا الآخرون فَلَم يُفَرِّقوا بينهما وتَرَكُوها على شَاكِلةٍ واحدة. فَنَظَرُ الحنفية دقيق.

وأمَّا مالك رحمه الله تعالى فأَسْقَطَ الاستواء مِنْ بينِ الأوقاتِ المكروهةِ، وَجَوَّزَ في الأربعةِ الفرائضَ دون النَّوافِل، ولعلَّه رَأَى أَنَّ الفَرائِضَ مِنْ إقامةِ الله فلا بَأْسَ باستثنائِها لقوتِها، فأَخْرَجَها عن النَّهي بخلاف النَّوافِل فإِنَّها مِنْ تِلْقَاءِ العبد.

وأمَّا الشافعي رحمه الله تعالى فوافقنا في اعتبارِ الخَمْسةِ إلا أنَّه جَوَّزَ فيها الفرائضَ، والواجبات، وذوات الأسبابِ مِنَ النَّوافِل، ولم يُفَرِّق بينهما في الحُكْمِ كمالك رحمه الله تعالى، وإنَّما فَرَّقَ في النوافل بين ذواتِ الأسبابِ وغيرِها، لأنَّ النَّوافِلَ التي أقامَ الشرعُ لها أسبابٌ ورَغَّب فيها بنفسِها بدونِ تفصيلٍ كتحية المسجد - فكأنَّها خارجة عن قضيةِ النَّهي من جهته فليتركها على حالها - جائزة في جميع الأوقات. وأمَّا التي لا أَسْبَابَ لها مِنْ تِلْقَاءِ الشَّرع بل هي في طوع العبد إِنْ شاء فعل وإِنْ لم يَشَأ لم يَفْعَل، لا تَرْغيب فيها بخصوصِها فليمتنع عنها في تلك الأوقات.

قلتُ: ولعلَّك عَلِمْتَ أنَّ الصَّلوات كلَّها إذا جازت في تلكَ الأوقات - المكتوباتِ، والتطوعاتِ من ذواتِ الأسباب، خَرَجَ أَكْثَرُ الأَفْرَادِ من أحاديث النَّهي، ولم يَبْقَ تَحْتَها إلا غير ذواتِ الأسباب من النَّوافِل، فصار عمومها قليل الجَدْوَى مَعَ صحةِ الأحاديثِ فيها بل تواترها في الوقتين الأخيرين، كما قال به أبو عمرو. فأخذناها بالنواجذ وعَمِلْنا بها مهما أمكنَ وجَعَلْنَاها أُسوة في البابِ، وسائرها مخصوصة بخلاف الخُصوم فإِنَّهم قد عَكَسوا الأمرَ وخَصَّصُوا الأحاديث العامَّة والضوابطَ الكلِّية بكل واقِعة وَرَدَت عليهم فأشعر به أيهما أولى؟ إلقاء الصَّلواتِ في أوقاتِ الشيطان أو صونُها عنها؟

وَذَهَب بعضُ السَّلَف إلى جواز الصَّلاةِ بعد العصر والفجر، وحملوا النَّهيَ على سَدِّ الذرائعِ أي لِئَلا تَقَع صلواتُهم في عين الطُّلُوع والغروب، فالأوقاتُ المكروهة عندَهُم ثلاثة، والنَّهيُ عن

<<  <  ج: ص:  >  >>