هاتين الصَّلاتين ليس لكونِهما مِنَ الأوقاتِ المكروهة بل صِيانَةً للصَّلواتِ عن الوقوع في عينيهما، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلّم «لا يتحرَّى أحدكم فيصلِّي عند طلوعِ الشمس وعند غروبها». فالنُّطقُ وإِنْ كان بعد الطُّلوع وبعد الغروب إلا أَنَّ المحط هو عين الطُّلوع والغروب، وأنت تَعْلَم أَنَّه لم يَبْقَ حينئذٍ تحت أحاديث النَّهي عن هاتين الصَّلاتين فَرْد، وبقيت الأحاديث بلا مصداق.
٥٨٣ - وَقَالَ حَدَّثَنِى ابْنُ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأَخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ». تَابَعَهُ عَبْدَةُ. طرفه ٣٢٧٢ - تحفة ١٠٥٤٤، ٧٣٢٢
٥٨٢ - قوله:(لا تَحَرَّوْا بصلاتِكُم طلوعَ الشمسِ ولا غُروبَها) قال الشافعية رحمهم الله تعالى: إنه لا دَخْل لتحري العبد في الفرائضِ وكذا في ذواتِ الأسبابِ مِنَ النَّوافِل فإِنَّها ليست من تَحَرِّيه، وإنما هي مِنْ جِهَةِ الله تعالى، فلم تَبْقَ تحتَهُ إلا غير ذواتِ الأسباب، وهي التي فيها دَخْلٌ لتَحَرِّيهِ، وقد مرَّ أنَّ ظاهرَهُ أَوْفَقُ مِمَّا ذهب إليه بعض السلف.
قلتُ: إذا صَدَعَ الشرعُ بكونِ الأوقاتِ الثلاثةِ أوقاتًا للشيطانِ، وبيَّنَ معنى الكراهة لكلِّ ذي عينينِ، فالجمودُ على ظاهرِ لفظِ التَّحرِّي لا نَدْرِي أهو مِنْ لَفْظِ النبي صلى الله عليه وسلّم أَوْ مِنْ جِهَةِ الرَّاوي جمود جامد، ثُمَّ إنَّك إنْ كان عندَكَ ذوقٌ مِنَ العربية فافهم أَنَّ قوله:«لا تَحَرَّوْا» ليس مدارًا للحُكْمِ بل تقبيحٌ عليه أيُّ تقبيح، فإِنَّه إذا تهاونَ في أَمْرِ الصَّلاة وفَعَلَ فِعْلَ المُنافِقِ ولم يحافظها على ما أَمَرَه الله، فصلاها متى أَرَادَ فكأنَّه أَلْزَمَهُ أنَّه يتحرَّى بذلك طلوع الشمس، فتهاونُه وقِلةُ مبالاتِه أُقيم مَقَامَ التَحرِّي على حد قوله تعالى:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ}[البقرة: ٢١٠] فكأَنَّ تأخرهم عن تصديق الرُّسل وتأخيرهم فيه أُقيمَ مَقَام نَظَرِهم إلى إتيان الله في ظُلل من الغمام، فإِذن هو لمزيدِ التقبيح، وراجع الطيبي للفَرْقِ بين قوله:«لا تَحَرَّوْا بصلاتكم» وقوله: «لا يَتَحَرَّى أحدكم فيصلي» ... الخ.
قوله:(وقبل أن تغرب) وقد مرَّ مني أنَّ المرادَ منه قبل الاصفرار وهو الغروب الشرعي، والصَّلاة بعده مكروهة، فلا يَدْخُل في سياقِ التعليم، وأمر القرآن أرفع منه، فلا يُحْمَل نَظْمُه إلا على الأحب فالأحب في نظر الشارع، ولذا أقول: إنَّ المرادَ من قوله: {مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ}[المزمل: ٢٠] ليس هو الآية، لأنَّه يُوجِب أَن تدخل الكراهة في نَظْمِ النَّص.