للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

نَظْرَةٌ أخرى إلى معنى التَّوَفِّي

واعلم أن نسبةَ المفهوم إلى المِصْدَاق قد تكون كنسبة الإِنسان إلى زيد، فإن زيدًا عينٌ مُبْصِرٌ وُضِعَ بإِزائه هذا المفهوم، وهو ذاتيٌّ له. وقد تكون كنسبة الضاحك إلى زيدٍ، فإنه خارجٌ عن حقيقته، عَرَضيٌّ له، إلا أنه ذاتيٌّ للحصَّة التي عُرِضَتْ له من الضَّاحِكِيَّة. فمن قال: إن الضَّاحِكَ عَرَضِيٌّ له، نَظَرَ إلى زيد الكل، ومن جَعَلَهُ ذاتيًا له، نَظَرَ إلى حصة الضَّاحِكِيَّة. وهذا معنى ما قالوا: إن الكليَّ نوعٌ لحصصه، فإنه وإن كان عَرَضيًّا للكلِّ، ولكنه ذاتيٌّ للحصَّة في الكلِّ من هذا الكليِّ كما أن الضَّاحِكِيَّةَ متحقِّقةٌ في زيدٍ، ولا ريب أن هذا الكليَّ ذاتيٌّ لها.

فالحاصلُ: أن الإِنسانَ، والضاحك وإن كانا مُتَغَايِرَاين مفهومًا، لكنهما متَّحِدَان مِصْدَاقًا. وذلك لأن مِصْدَاقَهُمَا لمَّا كان عينًا مُبْصِرًا لم يَتَحَصَّل فيه التَّغَايُر، واتحدا في المِصْدَاقِ.

هذا في أسماء الأعيان، أمَّا في أسماء المعاني، فلا تَغَايُرَ بين مفاهيمها ومصادقيها، فما هو مفهومه؟ هو مِصْدَاقُه، والذي هو مِصْدَاقُه هو مفهومُه وحقيقتُه. بخلاف أسماء الأعيان، فإن المفهومَ والمِصْدَاقَ فيها مُتَغَايِرَان.

إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن التَّوَفِّي من أسماء المعاني، فمفهومُه ومِصْدَاقُه واحدٌ. فمن قال: إن مِصْدَاقَه الموتُ، أو الرفعُ، فقد حَادَ عن الصواب، لأن له حقيقةً ومفهومًا في الخارج، وهو مِصْدَاقُهُ، وهذا المفهوم زائدٌ على معنى الموت، والرفع. نعم أينما يتحقَّقُ الموت أو الرفع، يتحقَّق هناك التوفِّي أيضًا لا بمعنى أن الموتَ أو الرفعَ هو التوفِّي، بل بمعنى أنه حقيقةٌ جامعةٌ مع الموت والرفع. فهو متحقِّقٌ في هذين بحقيقته التي هي حقيقتُه، وهي زائدةٌ على الموت. وتوضيحُهُ: أن التوفِّي وُضِعَ للأخذ وافيًا، وهذا المعنى يتحقَّق ويجتمع مع الموت والرفع أيضًا، بمعنى أن الأخذَ يتحقَّقُ في الموت والرفع أيضًا. فالتوفِّي له مفهومٌ، وله مِصْدَاقٌ في الخارج، وكذا الموت والرفع، لهما مفهومان ومِصْدَاقان، ومفاهيمُ الكلِّ ومصاديقها مُتَغَايِرَةٌ. وليس كأسماء الأعيان، فإنها تَتَغَايَرُ مفهومًا، وتتحد مِصْدَاقًا. بخلاف أسماء المعاني، فإن مفاهيمها إذا كانت هي مصاديقها لَزِمَ التَّغَايُرُ بين مصاديقها لا مَحَالَةَ.

فمن قال: إن مِصْدَاقَ التوفِّي والموت، أو التوفِّي والرفع واحدٌ، فقد أخطأ، لأن مِصْدَاقَ التوفِّي هو مفهومُه، وهو متحقِّقٌ في الخارج بحقيقته ومعناه، وهكذا الموت والرفع. نعم يُقَالُ: إن التوفِّي مجامعٌ للموت أو الرفع، متى تحقَّق الموتُ أو الرفعُ، تحقَّق معه التوفِّي أيضًا. فما قاله الرازي: إن التوفِّي نوعٌ، والموتَ والرفعَ من جزئياته، كلامٌ ظاهريٌّ. أو يكون أراد منه ما قُلْنَا. والتحقيقُ أن التوفِّي أمرٌ زائدٌ على معناهما، نعم قد يتحقَّقُ مع الموت، وقد يتحقَّقُ مع الرفع، فله مفهومٌ مُغَايِرٌ، ومِصْدَاقٌ مُغَايِرٌ، إلا أنه لمَّا كان من أسماء المعاني لم يتبيَّن التَّغَايرُ إلا بالاعتبار.

ثم اعلم أن البليغَ إذ يختارُ عنوانًا، يختاره لمعنى يُرَاعِيهِ ويَقْصِدُهُ، ولا يكون ذلك عنده على طريق البَخْتِ والاتفاق، فتركُ ذلك العنوان إفسادٌ لمعناه المقصود. فإذا قال البليغُ: إن فلانًا

<<  <  ج: ص:  >  >>