للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثم إن ههنا دقيقةً أخرى، وهي: أن شَرْعَنَا قد تحمَّل وجود الكتابيِّ. وأمَّا عيسى عليه الصلاة والسلام، فلا يتحمَّل اليهوديةَ والنصرانيةَ بعد نزوله، كما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلّم «أنه يَضَعُ الجِزْيَةَ، ولا يَقْبَلُ منه إلا السيف، أو الإِسلام». فأحاديثُ نزوله عليه الصلاة والسلام ليست في الحقيقة تفسيرًا لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: ١٥٩] إلخ، فإن محصِّلَ تلك الأحاديث الإِخبارُ بأمورٍ عديدةٍ تَقَعُ في زمانه، وإن تحقَّق لهم المعرفةُ الحقَّةُ في ضمنها أيضًا. أمَّا القرآنُ، فهو بصدد إخبار إيمانهم قصدًا دون الإِخبار بإِيمانهم الذي يَحْصُلُ في ضمن هذه الأشياء.

فإِن قُلْتَ: إن القرآن قد أخبر بإيمانهم، مع إخبار الأحاديث أن اليهود لا يؤمنون به، ويُقتَلون مع الدّجّال.

قلت: أمَّا الدَّجالُ فليس من أهل الكتاب قطعًا، ولم نجد في حديثٍ من الأحاديث أنه يدعو إلى التوراة والإِنجيل. وأمَّا من اتَّبَعُوه من اليهود، فأيضًا كذلك. أن اليهودَ اسمٌ للنَّسْلِ، دون المذهب، فالذين يُقْتَلُون معه لَيْسُوا من أهل الكتاب. ثم إيمان أهل الكتاب هذا ليس مما يكون لرجلٍ من الأمة بالنبيِّ، بل هو ما يَحْصُلُ في ضمن أفعاله، وليس ذلك إلا المعرفة. وحاصلُه: أن إيمانهم به ما كان بالغيب يَنْقَلِبُ إلى الشهادة. وحينئذٍ يَعْلَمُون أن الذي آمنوا به هو ذلك، وبعد الشهادة لا يَبْقَى أحدٌ منهم إلا يَحْصُلُ له الإِيمان بالشهادة.

ثم ما اشتهر على الأَلْسِنَةِ: أن دينَ الإِسلام يُبْسَطُ في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام على البسيطة كلِّها، ليس في الأحاديث، والذي فيها: أنه لا يَقْبَلُ اليهودية والنصرانية بعد نزوله من حيث المسألة، فَيُنْقِذُ نفسه من أسلم، ويُقْتَلُ من أبى، وهذا أيضًا حيث يَغْزُو نبيُّ الله عيسى عليه الصلاة والسلام. وملخَّص الأحاديث: أن اليومَ تجري الأديان الثلاثة، فإذا نزل عيسى عليه الصلاة والسلام لا يُقْبَلُ إلا الإِسلام، وحينئذٍ يكون الدينُ كلُّه لله. فهذا بيانٌ للمسألة، لا إخبارٌ بما يكون في الخارج. فيجوز أن يبقى الكفرُ والكُفَّارُ أيضًا، لكن إن يَبْلُغَ إليهم عيسى عليه الصلاة والسلام لا يُقْبَلُ منهم إلا دين الإِسلام، لا الجزية، كما هو اليوم.

ويُسْتفَادُ من الأحاديث: أن الغَلَبَةَ المعهودةَ إنما تكون في الشام ونواحيه حيث يَنْزِلُ عيسى عليه الصلاة والسلام، وفساد يَأْجُوج ومَأْجُوج أيضًا في هذه الأطراف، والجزيرة الطبرية أيضًا نحو الشام.

وبالجملة لم نَجِدْ في حديثٍ أن عيسى عليه الصلاة والسلام أيضًا يَدُورُ في الأرض، كدور الدَّجَّال، فلا تكون غلبةٌ موعودةٌ إلا في موضع نزوله. أمَّا سائر البلاد، فمسكوتٌ عنها، والله تعالى أعلم ما يكون فيها.

فهذه عِدَّةُ تحقيقاتٍ أهديناها إليك لتُمْعِنَ فيها النظر، ولا تُسْرِعُ في الرَّدِّ والقَبُول، فإن الإِنسانَ فُطِرَ على أنه إذا عُرِضَ له أمرٌ لم تُسْمِعْهُ أذناه رَدَّه، والله تعالى الملهم للصواب، وإليه المرجع والمآب.

<<  <  ج: ص:  >  >>