طبخ، وبين ما أُنقع، فإنَّهم غَلَوا في القول جدًا، ونَحَلُوا قومًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم البدريين، وقومًا من خيار التابعين، وأئمة من السلف المتقدمين، شربُ الخمر، وزينوا ذلك بأن قالوا: شربوها على التأويل، وغلطوا في ذلك، فاتهموا القومَ، ولم يتهموا نظرهم، ونحلوهم الخطأ، وبرَّءوا أنفسَهم منه.
فعجبتُ منه، كيف يَعِيبُ هذا المذهب، ثم يتقلده، ويطعنُ على قائله، ثم يقول به. إلا أني نظرتُ إلى كتابه، فرأيته قد طال جدًا، فأحسبه أُنسي في آخره، ما ذهب إليه في أوله، والقول الأول من قوله، هو المذهب الصحيح، الذي تأنس إليه القلوب، وتقبله العقول، لا قوله الآخر الذي غلط فيه - «العقد الفريد».
[ومن احتجاج المحلين للنبيذ]
ما رواه مالك بن أنس في «موطئه» من حديث أبي سعيد الخُدري أنه قدمَ من سفر، فقُدِّم إليه لحم من لحوم الأضاحي، فقال:«ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهاكم عن هذا بعد ثلاثة أيام؟» فقالوا: «قد كان بعدك من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيها أمر»، فخرج إلى الناس فسألهم، فأخبروه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال:«كنت نهيتُكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام، فكلوا وادَّخِروا، وتصدَّقوا، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الدُّباء، والمُزَفَّت، فانتبذوا، وكل مسكر حرام، وكنت نهيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولا تقولوا هجرًا»، والحديثان صحيحان، رواهما مالك بن أنس، وأثبتهما في «موطئه» وإنما هو ناسخ ومنسوخ.
وإنما كان نهيه أن ينتبذوا في الدُّباء والمُزَفَّت، نهيًا عن النبيذَ الشديد، لأن الأشربة فيهما تشتد، ولا معنى للدباء، والمزفت غير هذا «وقوله بعد هذا: «كنت نهيتكم عن الانتباذ، فانتبذوا، وكل مسكر حرام» إباحة لما كان حَظَّر عليه من النبيذ الشديد، وقوله صلى الله عليه وسلّم «كل مسكر حرام» ينهاكم بذلك أن تشربوا حتى تسكروا، وإنما المُسكر ما أسكرك، ولا يُسمَّى القليلُ الذي لا يُسكرُ مسكرًا، ولو كان ما يُسكر كثيره يسمى قليله مسكرًا، ما أباح لنا منه شيئًا.
والدليل على ذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم شربَ من سِقاية العباس، فوجده شديدًا، فقطَّب بين حاجبيه، ثم دعا بذنوب من ماء زمزم، فصب عليه، ثم قال:«إذا اغتلمت أشربتكم، فأكسروها بالماء» ولو كان حرامًا لأراقه، ولما صب عليه ماءً، ثم شربه. وقالوا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم «كل خمر مسكر، هو ما أسكر الفَرْقُ منه، فملء الكف حرام»: هذا كله منسوخٌ، نَسَخَه شربه للصُّلب يوم حجة الوداع.
قالوا: ومن الدليل على ذلك أنه كان ينهى وفدَ عبد القيس عن شرب المُسكر،