فوفدوا إليه بعد، فرآهم مصفرةً ألوانهم، سيئةً حالهم، فسألهم عن قِصتهم، فأعلموه أنه كان لهم شرابٌ فيه قِوَام أبدانهم، فمنعهم من ذلك، فأذن لهم في شُربه. وأن ابن مسعود قال:«شهدنا التحريم، وشهدتم، وشهدنا التحليل، وغتبتم»، وأنه كان يشربُ الصُّلب من نبيذ التمر، حتى كثرت الروايات به عنه، واشتهرت، وأذيعت، واتبعه عامة التابعين من الكوفيين، وجعلوه أعظم حججهم، وقال في ذلك شاعرهم:
* مَنْ ذا يُحرِّم ماءَ المُزْن خالطَة ... في جوفِ خابية، ماء العناقيد
* إني لأكرَه تشديدَ الرواةِ لنا ... فيه، ويعجبني قولَ ابن مسعود
وإنما أراد أنهم كانوا يعمدون إلى الرُّبِّ الذي ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه، فيزيدون عليه من الماء قدر ما ذهب منه، ثم يتركونه حتى يغلي، ويسكن جأشه، ثم يشربونه، وكان عمر يشرب على طعامه الصُّلب، ويقول:«يقطع هذا اللحم في بطوننا»؛ واحتجوا بحديث زيد بن أخرم عن أبي داود، عن شعبة، عن مِسْعَر بن كَدَام، عن ابن عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس أنه قال:«حُرِّمت الخمرُ بعينها، والمسكر من كل شراب»، وبحديث رواه عبد الرحمن بن سليمان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس:«أن النبي صلى الله عليه وسلّم طاف، وهو شاكٍ على بعيرٍ، ومعه مِحْجَن، فلما مر بالحجر استلمه بالمحجن، حتى إذا انقضى طوافه، نزل فصلى ركعتين ثم أتى السقاية»، فقال:«أسقوني من هذا»، فقال له العباس:«ألا نسقيك مما يصنع في البيوت؟» قال: «ولكن أسقوني مما يشرب الناس»، فأتي بقَدَح من نبيذ، فذاقه، فقطَّب، وقال:«هلموا، فصبوا فيه الماء»، ثم قال:«زد فيه مرة، أو مرتين، أو ثلاثًا»، ثم قال:«إذا صنع أحد منكم هكذا، فانصعوا به هكذا».
والحديث رواه يحيى بن اليمان، عن الثوري، عن منصور بن خالد، عن سعيد عن أبي مسعود الأنصاري، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عطش، وهو يطوف بالبيت، فأتي بنبيذ من السِّقاية، فشمَّه، فقطَّب، ثم دعا بِذَنُوب من ماء زمزم، فصب عليه، ثم شربه، فقال له رجل:«أحرام هذا يا رسول الله؟» فقال: «لا»، وقال الشَّعبي: شربَ أعرابيٌّ من إِذَاوة عمر، فأغشى، فحدَّه عمر، وإنما حده للسَّكر لا للشرب.
ودخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم يشربونَ، ويوقدون في الأخصاص، فقال:«نهيتكم عن معاقرَة الشراب، فعاقرتم، وعن الإِيقاد في الأخصاص، فأوقدتم»، وهم بتأديبهم، فقالوا:«يا أمير المؤمنين، نَهاك الله عن التجسس، فتجسَّست، ونهاك عن الدخول بغير إذن فدخلت، فقال: «هاتان بهاتين»، وانصرف، وهو يقول:«كل الناس أفقه منك يا عمر». وإنما نهاهم عن المُعَاقرة، وإدمان الشراب حتى يَسكروا، ولم ينههم عن الشَراب. وأصل المعاقرة مِن عقر الحوض، وهو مقام الشاربة. ولو كان عنده