في الحالة الراهنة، يراها الخواصُّ اليوم، وغدًا يراها العوامُ أيضًا، وكذلك الجنَّة والنار، ألا ترى أنَّ الكافر يُعَذَّب، ولا يسمعه الثَّقلان لاختلاف العالمين، فلا نعني بما حَقَّقت غيرَ هذا، ولكن مَنْ يقتحم أبوابَ الحقائق لا يجد لكشفها ألفاظًا تُوضِّحها، ومَنْ ليس له فَهْمٌ صحيح يقع في الزِّيغ، ويعزو إليّ ما لم أَوردْه، وهذا الذي وقع لأربابِ الحقائق، فلم ينتفع منهم إلا قليلٌ، فظاهِرُ الشريعةِ يبقى على طاهرِها والمسائل المسَلَّمة على مكانها، وإنما هو نحوَ بيانٍ خاطبت به، ومَنْ لا يقدر على وَضْع الأشياء في مواضعها، فليس خطابي معه، ولا أحل له أن يَقْفُو ما ليس له به عِلْم، وإنما خلق الله لكل فنِّ رجالا، ونعوذ بالله من الزِّيغ (١).
قوله:(ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةُ) وهي نهرُ الماء، ونهرُ اللَّبن، ونهر العسل، ونهر الخمر، وقال الشيخُ الأكبر: إنها نهر الحياةِ، ونهر العِلم، ونهر الإِيمان، ونهرُ الذَّوْق.
٢٧٩٤ - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِى حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «الرَّوْحَةُ وَالْغَدْوَةُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». أطرافه ٢٨٩٢، ٣٢٥٠، ٦٤١٥ - تحفة ٤٦٨٢
قوله:(وقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُم) واعلم أن تعيينَ الأمكنة عندهم كان بالأقواس والسَّياط، وعليه جاء الحديث؛ ومن هذا الباب قولُه صلى الله عليه وسلّم «مَوْضِعُ سَوْطٍ في الجنَّة» ... الخ، وهو قولُه تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (٩)} [النجم: ٩] والقَابُ والقيد واحد؛ وما ذكراه الراوي في الباب الآتي قَيْدُه - يعني سَوْطه - فإِنَّ كان بيانًا للمراد فصوابٌ، وإن كان بيانًا للترجمة فَغَلَطٌ. والمُفَسِّرون تأَوْلوا قوله تعالى:{قَابَ قَوْسَيْنِ} فقالوا: معناه: قابي قَوْسين. والصواب عندي أنه
(١) قلت: وقد أشرنا مِن قبل أن الشيخَ قد كان يقتحم أبوابَ الحقائق أيضًا، وإن كان خوفُ الزائغين لم يكن يُرخِّص لي أن أذكرها، إلا أني ذَكَرتها، لأن في إخفائها إخفاءً لباب من علوم، فذكرت بَعْضِها ليذوقَ منها أولو الأذواق، وأرجو من العلماء أن لا يَخلِطُوا بين باب الحقائق والعقائد، فإِنَّ الفَرْقَ واضحٌ، والله الهادي، وهو المُلْهِم للصواب.