وما يدلُّكَ على أن الكلامَ نُسِخ بالمدينةِ (١) حديثُ زَيْدِ بنِ أَرْقَمِ الذي أخرجه المُصنِّف رحمه الله تعالى. فإِنَّه مِمَّن لم يدخل مكةَ قط، مع أنه يروى أنه وُجِدَ زمانَ جوازِ الكلام ونَسْخِه كليهما، فدلَّ على أن الكلام كان جائزًا في المدينة أيضًا إلى زمنٍ أَدْرَكَه زيدُ بنُ أرقم، ثم إنَّه نُسِخ كما رواه. فلو كان نَسْخُ الكلامِ بمكةَ كما زَعَموا لم يكن لزيدٍ بنِ أَرقم أَنْ يُدْرِكه ويرويه، ويروي نَسْخه أيضًا، مع أن الآية مَدنيةٌ باتفاقٍ بيننا وبينهم فادِّعاءُ النَّسْخ بمكةَ بعيدٌ جدًا. ومعنى قوله تعالى:{وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ}[البقرة: ٢٣٨] أي متأدِّبين، فالسكوتُ من لوازِمه لا مِن مَدلولِه هذا هو المرادُ عندي. ولما اختار الشافعيُّ رحمه الله تعالى القُنوت في الفجر، أراد من الصلاةِ الوسطى الفَجْرَ لِيَرْتَبِطَ بها القنوتُ. فالقُنوت عندَه على الدعاءِ المعروف.
(١) واعلم أن الكلام في حديث ذي اليدين أطولُ من أطول. ثُمَّ البحثُ في كون ذي اليدين وذي الشمالين رجلًا واحدًا أو متعددًا أطولُ منه. لم يتعرَّض إليه الشيخُ رحمه الله تعالى ههنا، لأنه كان قد فَرَغ منه في درس الترمذي. وقد ذَكَرْتُ نبذةً منه مِن قبل. وإنَّما كان جُلُّ هَمِّ الشيخ رحمه الله تعالى في البخاري إلى بيانِ أغراضِ المصنف رحمه الله تعالى، أو بَعْضِ مقاصدَ عاليةٍ أخرى فاعلمه.