قال الخطابيُّ: ليس في هذا الكتاب - يعني «صحيح البخاريِّ» - حديثٌ أشنعُ ظاهرًا، ولا أشنعُ مذاقًا من هذا الفصل، فإنَّه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين، وبين الآخر، وتمييز مكان كلِّ واحد منهما ... إلخ.
واعلم أنه كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم في ليلة المِعْرَاجِ معاملةٌ مع جبرئيل عليه الصَّلاة والسَّلام، ومعاملةٌ مع ربِّه عزَّ وجلَّ. وقد جَمَعَتْ سورة النجم بينهما، فاختلط الأمرُ على الرواة أيضًا. ثم إن الرؤيةَ لمَّا كانت رؤيةَ التجلِّيات، جاء فيها النفيُ والإِثباتُ، فقيل: نورٌ أنَّى أَرَاه، وقيل: نورٌ إنِّي أَرَاه. وقد قدَّمنا الكلامَ في بَدْء الوحي: أن الرؤيةَ كانت رؤيةً بصريَّةً محقَّقةً، إلَّا أن رؤيةَ الماديِّ للمجرد، لا تكون إلَّا ما ناسبه، فلا توفِّيها الألفاظ، ويَتَجَاذَبُ فيه النفيُ والإِثباتُ، فهي كقوله (١):
(١) قلت: إن الشيخ سمى تلك الرؤية رؤية التجليات، بناء على مختار الشيخ الأكبر، فإن رؤية الذات عنده، ليست إلا رؤية التجليات، حتى قال: إنه لا يرتفع رداء الكبرياء في المحشر أيضًا، فلا تحسب أنه إنكار للرؤية البصرية، حاشا، ثم حاشا، بل الكلام في أن الرؤية البصرية التي كانت، هل تعلقت بنفس ذاته تعالى، أعني بدون تجلي، أو تجلى له تعالى، ثم تعلقت به رؤيته. فهذا بحث في الحقائق، وقد ذهب فيه أربابها إلى نحوين، فمن نظر إلى ظواهر النصوص، قال: برؤية عين الذات، تعالت وتقدست، ومن نظر إلى أن جلاله تعالى يمنع أن تدركه الأبصار مطلقًا، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره، زعم أنها عبارة عن نحو تجلى، نعم بين التجلي، والتجلي فرق، لا يدركه بصر، ولا فهم، ولا وهم، فمنه ما يكون للأولياء، ومنه ما كان لموسى عليه الصلاة والسلام على جبل الطور، ومنه ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، فإذا جاء باب الحقائق، فلا تغمس فيه، فإن لكل فن رجالًا، وليس لنا فيه حظ غير الاستماع، ولعلك سمعت: كن يهوديًا صرفًا، وإلا فلا تلعب بالتوراة، ونسأل الله الإيمان، والسلامة عن الزيغ، وسوء الفهم، والله تعالى أعلم.