للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

«كلُّ مُيسَّرٌ لِما خُلِق له» (١) وهذه الجملةُ جزيلةٌ المعنى فليُمْعَن النَّظرُ فيها. وحاصل الجواب: أن الإنسان مختارٌ في عالم الشهادة، ومجبورٌ بالنَّظر إلى عالم الغيبِ الذي تحقَّق بالأدلةِ المسعية، وإلا فنحن مختارون في العالم المشهور قطعًا، ولا خبرَ لنا بعالمٍ غيرِهِ. فافعلوا الخير وامتنعوا عن الشرِّ في موطن الاختيار. فإن المسبوقَ بالخير لا يأتي منه الشرُّ والمسبوقُ بالشر لا يأتي منه الخيرُ أصلا، ولا يُيسر للسعيدِ إلا الأعمالُ الصالحةُ، وللشقيِّ إلا الأعمالُ الطالحةُ. فقولُكُم: «أفلا ندع العمل في غير محلِّهِ، فإنكم إن سَبَق لكم الخيرُ لا يُيسر لكم إلا هو، فإيَّاه تعملون. وكذا إن قُدِّر لكم الشرُّ لا ييسر لكم إلا هو، ففيه تقتحمون. فليس الخيرُ والشرُّ من عندِ أنفسكم وإنما استُعملتم به فعملتُم. وهذه الجملُ بهذه السذاجةِ لا يمكنُ أن تخرج إلا من صاحبِ النُّبوةِ.

٨٣ - باب مَا جَاءَ فِى قَاتِلِ النَّفْسِ

١٣٦٣ - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِى قِلَابَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ». أطرافه ٤١٧١، ٤٨٤٣، ٦٠٤٧، ٦١٠٥، ٦٦٥٢ - تحفة ٢٠٦٢

١٣٦٤ - وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا جُنْدَبٌ - رضى الله عنه - فِى هَذَا الْمَسْجِدِ فَمَا نَسِينَا، وَمَا نَخَافُ أَنْ يَكْذِبَ جُنْدَبٌ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَقَالَ اللَّهُ بَدَرَنِى عَبْدِى بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ


(١) قال العيني رحمه الله تعالى:
فإن قلت: إذا كان القضاءُ الأَزلي يقتضي ذلك، فلم المدحُ والذمُّ والثواب والعقاب؟ أجيب: بأَنَّ المدحَ والذمَّ باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية. وهذا هو المرادُ بالكسب المشهور عن الأشاعرة، وذلك كما يمدح الشيءُ ويذم بحسنه وقُبحه وسلامتِه وعاهتِه، وأما الثواب والعقاب فكسائر العادِيَّات، فكما لا يصح عندنا أن يقال لم خلق الله تعالى الاحتراقَ عقيبَ مماسته النارَ ولم يَحصُلِ ابتداءً، فكذا ههنا.
وقال الطِّيبي: الجواب من الأُسلوب الحكيم، منعهم - صلى الله عليه وسلم - عن الاتكالِ وتَرك العمل، وأَمَرَهم بالتزام ما يجبُ على العبد من العبودية وإياكم والتصرفَ في الأُمور الإلهية، فلا تجعلوا العبادةَ وتَرْكَها سببًا مستقِلًا لدخول الجنة والنار، بل إنها علاماتٌ فقط.
وقال الخطابي: لما أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن سَبق الكتاب بالسعادةِ، رام القومُ أن يتخذوه حُجَّةً في تَرك العمل، فأعلمهم أن ههنا أمرين لا يبطل أحدُهما الآخرَ. باطن: هو العلة الموجبة في حُكم الرُّبُوبيَّة. وظاهر: هو التتمةُ اللازمةُ في حقِّ العبودية، وإنما هو أَمارةٌ مخيلة في مطالعة عِلم العواقب غيرُ مفيدةٍ حقيقةً. وبيَّنَ لهم أن كلَّا ميسَّرٌ لما خُلق له، وأن عَمَله في العاجل دليل مصيرِه في الآجلِ، ولذلك مَثَّل بقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥)} الآيةَ [الليل: ٥].
ونظيرُه الرزقُ المقسومُ مع الأَمر بالكَسب، والأَجلُ المضروبُ مع التعالج بالطبِّ، فإنَّك تجدُ الباطنَ منهما على موجبه، والظاهر سببًا مخُيلًا. وقد اصطلحوا على أنَّ الظاهِرَ منها لا يُترك للباطن. اهـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>