فإن قلت: إذا كان القضاءُ الأَزلي يقتضي ذلك، فلم المدحُ والذمُّ والثواب والعقاب؟ أجيب: بأَنَّ المدحَ والذمَّ باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية. وهذا هو المرادُ بالكسب المشهور عن الأشاعرة، وذلك كما يمدح الشيءُ ويذم بحسنه وقُبحه وسلامتِه وعاهتِه، وأما الثواب والعقاب فكسائر العادِيَّات، فكما لا يصح عندنا أن يقال لم خلق الله تعالى الاحتراقَ عقيبَ مماسته النارَ ولم يَحصُلِ ابتداءً، فكذا ههنا. وقال الطِّيبي: الجواب من الأُسلوب الحكيم، منعهم - صلى الله عليه وسلم - عن الاتكالِ وتَرك العمل، وأَمَرَهم بالتزام ما يجبُ على العبد من العبودية وإياكم والتصرفَ في الأُمور الإلهية، فلا تجعلوا العبادةَ وتَرْكَها سببًا مستقِلًا لدخول الجنة والنار، بل إنها علاماتٌ فقط. وقال الخطابي: لما أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن سَبق الكتاب بالسعادةِ، رام القومُ أن يتخذوه حُجَّةً في تَرك العمل، فأعلمهم أن ههنا أمرين لا يبطل أحدُهما الآخرَ. باطن: هو العلة الموجبة في حُكم الرُّبُوبيَّة. وظاهر: هو التتمةُ اللازمةُ في حقِّ العبودية، وإنما هو أَمارةٌ مخيلة في مطالعة عِلم العواقب غيرُ مفيدةٍ حقيقةً. وبيَّنَ لهم أن كلَّا ميسَّرٌ لما خُلق له، وأن عَمَله في العاجل دليل مصيرِه في الآجلِ، ولذلك مَثَّل بقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥)} الآيةَ [الليل: ٥]. ونظيرُه الرزقُ المقسومُ مع الأَمر بالكَسب، والأَجلُ المضروبُ مع التعالج بالطبِّ، فإنَّك تجدُ الباطنَ منهما على موجبه، والظاهر سببًا مخُيلًا. وقد اصطلحوا على أنَّ الظاهِرَ منها لا يُترك للباطن. اهـ.