(٢) قلتُ: ولما كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - آخِرَ الأنبياء، وأراد اللهُ سبحانه توحيدَ الأديان في زمانه، جمع بين اسمَيْه في التسمية، وجَمَع بين القِبْلَتَيْن في الصلاة، حيث وَجَّه النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم في بيتِ المَقْدس إلى زمن، وهو من بني إسماعيل. ويوجِّه المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلى الكعبةِ، وهو من بني إسرائيل، ليعلم أنَّ الدينَ كلَّه لله {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: ١١٥]، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعمل بشريعةِ التوراة فيما لم ينزل فيه شَرْعٌ، فكان في الجمع إعلانًا بِأَنَّ شَرْعه قد جمع الشرائِعَ كلَّها، ودينَه حاز الأديانَ أجمعها. ثم إني رأيتُ بينهما فَرْقًا لطيفًا في رسالةٍ لا أَذْكُر اسمها، ولعلَّها عقيدةُ السَّفَارِيني عن ابن القيم، أنَّ الكمال في الصِّفات قد يُعْتبر باعتبار نَفْسِها، وقد يُعتبر باعتبار تعلُّقِها بالغير، فتقول: فلانٌ عالِم كبيرٌ، ولو كان عِلْمه لا ينفع الناسَ شيئًا، فهذا مَدْحٌ له باعتبار نَفْسه، فإِذا عَلم الناسَ، ونَفَعَ غيرَه أيضًا فحينئذٍ تَمْدَحُه لا لكونِه عالمًا فقط، أي صاحب صِفَة ومَلَكة، بل لأنه يُنتفع مِن عِلْمه، وتعلّق تلك الصفةِ بالآخَرِين أيضًا، والاعتباران لا يتلازمان. إذا عَلِمت هذا، فأعلم أن الرحمن يدل على كمال رَحْمته في ذاته تعالى، والرحيم على تَعَلُّقها بالنَّاسِ أيضًا، والمعنى أن الله سبحانه هو الرَّحمن باعتبارِ ذاته، والرحيم باعتبار أنه يَرحَم العبادَ أيضًا، والجَمع بين الوَصفين هو الكمال الحقيقي. وهذا الفَرْق لطيفٌ عندي في غايته، والله تعالى أعلم بالصَّواب. (٣) قلتُ: وفي "المشكاة" -في الفَصْل الأَوَّل من باب الحَشْر- عن أبي سعيد الخُدْري، وفيه: فأتى رَجُلٌ من اليهود، فقال: بارك الرحمنُ عليك يا أبا القاسم ... إلخ، ففيه دليلٌ على اشتهارِ هذا الاسمِ عندهم، غير أنَّ الشيخ أراد كَوْنَه في التوراة أيضًا. ثُم رأيتُ في "رُوح المعاني" عن الضَّحاك أنه قال: قال أهلُ الكتاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -: إنَّك لتقلّ ذِكْر الرحمن، وقد أكْثَرَ اللهُ تعالى في التوراة هذا الاسمَ. اهـ. إلَّا أنَّ نَظَر الشيخ قائمٌ بعد، فإِنَّه لا يوجد اليوم في التوراة. ثُم ذَكَر الشيخُ الألوسي في إكثارِ هذا الاسمِ وَجهًا حسنًا، قال: وكأنَّ حِكْمةَ ذلك أنَّ موسى عليه الصلاة والسلام كان غضوبًا، كما دلَّت عليه الآثارُ، فأكثر له مِن ذِكْر الرحمن لِيعامِلَ أُمته بمزيدِ الرحمة. اهـ.