واعْلَم أَنَّ البُخاري لم يُفَرِّقْ بين جَوازِ الحِيلَةِ ونفاذِها، فَكُلُّ ما كان يَرِدُ على القَوْلِ بالجَوازِ، أَوْرَدَهُ على القَوْلِ بالنَّفَاذِ مع فَرْقٍ جَلي بَيْنَ الأَمْرَيْنِ، فَرُبَّ شيءٍ لا يكونُ فِعْلُه جائزًا عِنْدَ الشَّرْعِ، فإِنْ تَجَاسَرَ عليه أَحدٌ يُعْتَبَرُ لا مُحَالَةَ أَلا تَرَى أَنَّ الطَّلاقَ في زَمنِ الحَيْضِ مَحْظُورٌ، مع ذلك لو طَلَّقَهَا فيه وَقَعَ ونَفَذَ، ولا أقل مِنْ أَنَّ النظرَ يتردَّدُ فيه، فالأوَّلُ لا يَسْتَلْزِم الثاني، فأِنَّ أحدًا منهم لم يَقُلْ بجوازِ الطَّلاقِ زَمَنَ الحَيْضِ، وإنْ ذَهَبَ شِرْذِمَة إلى هَدْرِهِ، وكيفَ ما كان دارَ النظرُ في الثاني، مَعَ الاتِّفَاقِ في الأوَّل.
ثُمَّ إِنَّ منْ نَقْلِ الحِيَل، ولم يَنْقُل عبارةَ أَبي يُوسف في أَوَّلِها فَقَدْ قَصَّرَ جدًا، لأنَّ النَّاظِرَ إذا رَأَى الحِيَل لِدَفْعِ الحقوقِ، مضبوطةً مكتوبةً، يَظُنُّها جائزةً، فَيتَحَيَّرُ مِنْ جوازِ هذه الخديعةِ في الإِسلامِ، بَعْدَ أَنَّه قَدْ كان جَاءَ لِمحْقِهَا واسْتِئْصَالِها، فكيف بهذا الإِفسادِ بعد الإِصلاح، ولو كتبوا في أَوَّلِ الباب، أَنَّ الحِيَلَ لأَخْذِ أموالِ النَّاسِ حرامٌ عندنا، لَثَلَجَ الصَّدْرُ، فإِنَّها لِمنْ ابتُلِيَ، وَأَرَادَ تخليصَ رَقَبَتِهِ مما قد أُحِيطَ به، فأَشفَاهُ على الهَلاكِ، لا لأَنَّ المقصودَ منها ترْوِيجُها وإباحتُها لحبطِ الأموال، والعياذ بالله.
والحقُّ قد يَعْتَرِيهِ سُوء تَعْبير فلم يَرِد ما وَرَدَ علينا إلا مِنْ سُوء هذا الصنيع.
ولذا وَجَبَ علينا أَنْ نَأْتي أَوَّلًا بِما في الحيل من التشديد عند علمائِنا. قال الحافظُ: ونَقَلَ أبو حَفْصٍ الكبير، راوي كتابَ الحِيَل عن مُحمدٍ بنِ الحسنِ أَنَّ محمدًا قال: ما احتالَ به المسلمُ حتى يَتَخَلَّصَ به من الحرام، أو يَتَوَصَّل به إلى الحلال، فلا بأس به وما احتالَ به حتى يُبْطِلَ حقًا، أو يُحقَّ باطلًا، أو ليُدْخِلَ به شبهة في حَقٍ فهو مكْرُوه، والمكْرُوه عندَهُ إلى الحرامِ أقرب، اهـ.