ثم إنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى أتى في المتابعة بلفظ:«أراد» إشارة إلى أنَّ هذا الدعاء إنما هو عند الإِرادة قبل دخول الخلاء، لا بعد الدخولِ فيه كما يتُوهم من ظاهرِ لفظه. قلت: ورَوى المصنِّف رحمه الله تعالى في «الأدب المفرد» بلفظ: «إذا أراد الدخول». صراحةً.
قالوا: إن الحديثَ لأهل المدينةِ ولمن كانت قِبلتُهم على سَمِتْهم. ثم إن الظاهر أن البخاري اختار مذهب الشافعي ومالك رحمهما الله تعالى، ولا يُدرى أنَّه اختار تفاصيلهم وفروعَهم في تلك المسألة أيضًا أم لا؟ أما استثناءُ المصنِّف رحمه الله تعالى فمأخوذٌ من حديث ابن عمر رضي الله عنه عندي، وليس مأخوذًا من حديث أبي أيوب رضي الله عنه كما تكلَّفَ فيه بعضهم، فقال: إن الغائطَ يقال للصحراء والفضاء، فكأن هذا الحديث لم يَرِد في البُنيان، وإنما جاء فيما ذهب لحاجّه إلى الصحارَى والفيافي. قلت: بل الغائطُ في اللغة للأرض المطمئنة والمنخفضة، وإنما كانوا يتحرَّون مكانًا منخفضًا ليحصلَ التسترُ، وهكذا العمل في أهل البوادي إلى يومنا هذا.
وحينئذٍ صار الحديثُ حجة لنا بعدما كان حجة علينا، لأن الانخفاض يكون كالبنيان كما فعل ابن عمر رضي الله عنه فأناخ راحلته وبال إليها. ثم إن الراوي فَهِمَ غير ما فَهِموه، فعنه عند الترمذي:«فقدِمْنَا الشام - فوجدنا مراحيضَ قد بُنِيَت مستَقبَلَ القِبْلة فننحرف عنها ونستغفر الله» فهذا أبو أيوب جعل النهي على عمومه، البُنيانَ والصحارى سواء. ومن العجائب ما نسب ابن بَطَّال إلى البخاري أنه ليس في المشرق والمغرب عنده قبلةً على البسيطة كلها. قلت: وكيف نَسَبَه إليه مع أن أهل بخارى إنما يصلون إلى المغرب؟ فهل خَفِيَ على مثلِ البخاري قبلتَه مدَّة عُمُره؟ وإنما تَوهَّم من عبارته في أبواب القِبلة ليس في المشرق ولا في المغرب قبلةً وسيجيء شرحه في موضعه.
واعلم أن المذاهبَ في هذا الباب عديدةٌ ذكرها العلماء، ونذكر ههنا مذاهب الأئمة الأربعة فقط:
فمذهب الإِمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: كراهة الاستقبال والاستدبار في البناء والفضاء تحريمًا. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والرواية الأخرى عنه جواز الاستدبار مطلقًا مع كراهة الاستقبال مطلقًا. وهو رواية عن أبي حنيفة كما في «الهداية». وفي «النهر الفائق» قيل: إنه كُرِه تنزيهًا، ومثله في «المسوى»«والمصفى».